ويسأل "العربي الجديد"، الحقوقي عقبة بوشاقور، عن مدى توفّر أرضية لحماية من يتدخل في مثل هذه الحالات في القانون الجزائري، فيقول إنها غائبة حتى بالنسبة للشهود، "وهو ما ساهم في تكريس ثقافة عدم التّدخل، خوفاً من الراغب في ذلك من أن يصبح طرفاً في التهمة". يضيف: "ساهمت حماية المتدخلين والشهود في المجتمعات التي تعمل بها، مثل الولايات المتحدة، في ردع الأفراد والجماعات والتشجيع على قول الحقيقة، وتوفير الدافع إلى التدخل أثناء وقوع التجاوزات".
ساهم تراجع روح الجماعة وسيادة روح الفردانية في الشارع الجزائري، بفعل تحوّلات غير مدروسة، في الاستقالة المعنوية للأفراد والجماعات من إسداء النصيحة وفكّ الشجارات، ما أدّى إلى جرعة زائدة من الجرأة لدى الجيل الجديد
"ما كُنّاش هكذا بكري"، أي لم نكن بهذا الشكل في السابق. عبارة كثيراً ما تتردّد اليوم في الفضاء الجزائري على ألسنة متوسّطي السن وكباره، في معرض المقارنة بين الزمنين/ الجيلين، تفكيراً وسلوكاً. هنا لا بدّ من مراعاة معطى موضوعي أنّ هذه المقارنة قد يمليها رفض الجيل القديم لأيّ جديد من طبيعة تحوّلات المكان والإنسان، وهو شقّ لا يعنينا في هذا المقام. ما يعنينا هو أنّ هناك تحسّراً فعلياً لدى قطاع واسع من الجزائريين، على انسحاب جملة من السلوكات الاجتماعية الحميدة، التي كانت تحفظ تماسكهم.
تأتي في طليعة هذه السلوكات المنسحبة، النصيحة بين الأفراد والجماعات، وتولّي كلّ من يرى سلوكاً معوجّاً، خصوصاً عند الأطفال والمراهقين، تقويمه والحثّ على تركه أو ستره على الأقلّ، محميّاً بإجماع معنوي عام على وجوب ذلك والثناء عليه. يقول العمّ رمضان (67 عاماً)، لـ "العربي الجديد"، إنّ الجزائريين كانوا يعتبرون من المخلّ بحياء الرجل، وبانتمائه إلى الجماعة، مصادفة طفل يمارس فعلاً غير مرغوب فيه، كأن يدخّن، أو يقول كلاماً بذيئاً، أو يؤذي إنساناً أو حيواناً، أو يتهرّب من المدرسة، أو يتقاعس عن مساعدة مسنّ، من غير أن ينصحه أو يؤدّبه.
يتوسّع العمّ رمضان، المتقاعد من شركة السكك الحديدية: "كنّا نؤدّب الطفل من غير العودة إلى والده، لعلمنا المسبق بأنّنا نملك الإذن منه بذلك، وكانت أكبر خدمة نقدّمها لذلك الطفل من باب تحفيزه على عدم العودة إلى ما أدّبناه بسببه، هي ألا نخبر والده بذلك، لأنّ العقاب على يديه سيكون مضاعفاً، تماماً مثلما يكون لوم هذا الوالد لي مضاعفاً إن لم أتصرّف بما يجب من النصيحة والتأديب". يقارن: "أمّا اليوم، فهو يأتي إليّ ليهدّدني لأنّني اعتديت على ولده في نظره".
اقــرأ أيضاً
في السياق، يقول الناشط والمربّي مرزاق حمداش إنّ معظم الشجارات بين الجارات، وما يترتّب عليها من صياح معجون بالسبّ والبذاءة، بات بسبب تدخّل إحداهنّ أو زوجها أو ابنها الكبير، لردع ولد إحداهنّ عن فعل مخلّ بالأدب أو مضرّ له شخصياً. يتوسّع في تشريحه للظاهرة: "انتقل رفض قطاع واسع من الآباء والأمهات لما يسمّونه تدخّلاً في شؤون أولادهم إلى المؤسسات التربوية نفسها، إذ باتوا يقتحمونها ويوبّخون المعلّمين على أنهم نهروا أو عاقبوا تلميذاً". ويذكّر بحادثة وقعت في محافظة البويرة، 70 كيلومتراً شرقاً، خلال الموسم الفائت، أقدمت فيها إحدى الأمهات على ضرب معلمة عاقبت ابنتها، لأنّها لم تنجز واجبها المدرسي.
هذا الواقع، بحسب حمداش، أثمر جرأة غير مسبوقة لدى التلميذ في المدرسة، والطفل والمراهق في الحومة. يقول: "وإلا كيف نفسّر أن الشباب والمراهقين لم يعودوا يختفون عن الأنظار في حال تدخينهم الحشيش (القنب الهندي) مثلاً، أو تناولهم الكحول، أو يجدون حرجاً في ارتداء ألبسة وتبني تسريحات مخلّة؟". يسأل: "لماذا لم يكن هذا موجوداً في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني، حين كان الوالدان الجزائريان أميين، وبات مستفحلاً في زمن اختفى فيه هذا الجيل، وحلّ محلّه جيل متعلّم من الآباء والأمهات؟".
يقارب الكاتب والمربي محمد بوطغان هذا الهاجس من زاوية أن هناك تحوّلات موضوعية عرفها الفضاء الجزائري، على أصعدة كثيرة، "ومن التعسّف أن نقارن زمناً بزمن آخر، من غير مراعاة هذه التحوّلات". من ذلك، بحسبه، ارتباط صورة الجيل القديم لدى الجيل الجديد، بعرقلته في مسعاه إلى حياة متحرّرة، "فبات الجدّ والجدّة معزولين في يوميات الأسرة، وظهرت دُور العجزة في التجمّعات السكنية الكبرى، في ظلّ فشل المنظومة العامّة في الوصول إلى مجتمع متناغم ومتكامل ومؤمن بخصوصية كلّ جيل".
غير أنّ هذا الفشل لا يسري على المناطق الجزائرية جميعها، بحسب بوطغان، ذلك أنّه مسّ المدن الكبرى أكثر، بسبب كونها أقرب إلى العشوائيات منها إلى التجمعات الحضرية، بما هي فضاءات تقوم على روح الاجتماع. يعطي مثالاً حيّاً على ذلك: "في منطقة بني مزاب، وبعض المفاصل في الشمال والجنوب، ما زالت زمام تسيير المجتمع، في يد الأعيان وكبار القوم، حيث يتحرّك الشاب ويتصرف وفق هذا العقد الاجتماعي الخاضع للأخلاق العامّة". يختم: "ما يؤسف له أنّها بقيت تجارب معزولة، ولم تعمل المنظومات المعنية على تبنّيها وتعميمها، أو الانخراط في ما يشبهها من بنيات المجتمع المدني الحديث".
في القطار الرابط بين مدينتي الثنية والجزائر العاصمة، صاحت فتاة تبيّن أنّها طالبة جامعية، طالبةً النجدة من الركاب، لأنّها تعرّضت للتحرّش من جليسها، غير أنّ الجميع التزم الصمت، مما دفعها إلى اتهامهم بالتواطؤ والسكوت على المنكر. "ها أنتم خائفون، أليس كذلك؟ لقد سمحتم لفرد غير متخلّق بأن يهزم ضمائركم". ولم يتحرّك بعض الركاب إلا بعدما همّ الفتى المتّهم بضربها.
وينفي الناشط المسرحي فتحي كافي أن تكون هذه الصورة نهائية في الشارع الجزائري الجديد، غير أنّها في طريقها إلى أن تصبح كذلك، بحسبه، إذا لم تتفطّن المنظومات المختلفة إلى ذلك وتتصرّف على أساسه. يقول: "في السابق، كانت الأيدي تمتدّ عفوياً لفكّ الشجار بين اثنين. أما اليوم، فباتت الأكثرية تتبنّى منطق جحا القائل إنّ ما يهمّه هو أن يتفادى رأسه". ويذهب كافي بعيداً بالقول: "ليس هذا حال الناس العاديين فقط، بل بات حال المثقفين والفنّانين أيضاً، إذ يندر التدخل للمصالحة بين المتخاصمين، خصوصاً بعد انتشار فيسبوك في حياتنا".
"ما كُنّاش هكذا بكري"، أي لم نكن بهذا الشكل في السابق. عبارة كثيراً ما تتردّد اليوم في الفضاء الجزائري على ألسنة متوسّطي السن وكباره، في معرض المقارنة بين الزمنين/ الجيلين، تفكيراً وسلوكاً. هنا لا بدّ من مراعاة معطى موضوعي أنّ هذه المقارنة قد يمليها رفض الجيل القديم لأيّ جديد من طبيعة تحوّلات المكان والإنسان، وهو شقّ لا يعنينا في هذا المقام. ما يعنينا هو أنّ هناك تحسّراً فعلياً لدى قطاع واسع من الجزائريين، على انسحاب جملة من السلوكات الاجتماعية الحميدة، التي كانت تحفظ تماسكهم.
تأتي في طليعة هذه السلوكات المنسحبة، النصيحة بين الأفراد والجماعات، وتولّي كلّ من يرى سلوكاً معوجّاً، خصوصاً عند الأطفال والمراهقين، تقويمه والحثّ على تركه أو ستره على الأقلّ، محميّاً بإجماع معنوي عام على وجوب ذلك والثناء عليه. يقول العمّ رمضان (67 عاماً)، لـ "العربي الجديد"، إنّ الجزائريين كانوا يعتبرون من المخلّ بحياء الرجل، وبانتمائه إلى الجماعة، مصادفة طفل يمارس فعلاً غير مرغوب فيه، كأن يدخّن، أو يقول كلاماً بذيئاً، أو يؤذي إنساناً أو حيواناً، أو يتهرّب من المدرسة، أو يتقاعس عن مساعدة مسنّ، من غير أن ينصحه أو يؤدّبه.
يتوسّع العمّ رمضان، المتقاعد من شركة السكك الحديدية: "كنّا نؤدّب الطفل من غير العودة إلى والده، لعلمنا المسبق بأنّنا نملك الإذن منه بذلك، وكانت أكبر خدمة نقدّمها لذلك الطفل من باب تحفيزه على عدم العودة إلى ما أدّبناه بسببه، هي ألا نخبر والده بذلك، لأنّ العقاب على يديه سيكون مضاعفاً، تماماً مثلما يكون لوم هذا الوالد لي مضاعفاً إن لم أتصرّف بما يجب من النصيحة والتأديب". يقارن: "أمّا اليوم، فهو يأتي إليّ ليهدّدني لأنّني اعتديت على ولده في نظره".
في السياق، يقول الناشط والمربّي مرزاق حمداش إنّ معظم الشجارات بين الجارات، وما يترتّب عليها من صياح معجون بالسبّ والبذاءة، بات بسبب تدخّل إحداهنّ أو زوجها أو ابنها الكبير، لردع ولد إحداهنّ عن فعل مخلّ بالأدب أو مضرّ له شخصياً. يتوسّع في تشريحه للظاهرة: "انتقل رفض قطاع واسع من الآباء والأمهات لما يسمّونه تدخّلاً في شؤون أولادهم إلى المؤسسات التربوية نفسها، إذ باتوا يقتحمونها ويوبّخون المعلّمين على أنهم نهروا أو عاقبوا تلميذاً". ويذكّر بحادثة وقعت في محافظة البويرة، 70 كيلومتراً شرقاً، خلال الموسم الفائت، أقدمت فيها إحدى الأمهات على ضرب معلمة عاقبت ابنتها، لأنّها لم تنجز واجبها المدرسي.
هذا الواقع، بحسب حمداش، أثمر جرأة غير مسبوقة لدى التلميذ في المدرسة، والطفل والمراهق في الحومة. يقول: "وإلا كيف نفسّر أن الشباب والمراهقين لم يعودوا يختفون عن الأنظار في حال تدخينهم الحشيش (القنب الهندي) مثلاً، أو تناولهم الكحول، أو يجدون حرجاً في ارتداء ألبسة وتبني تسريحات مخلّة؟". يسأل: "لماذا لم يكن هذا موجوداً في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني، حين كان الوالدان الجزائريان أميين، وبات مستفحلاً في زمن اختفى فيه هذا الجيل، وحلّ محلّه جيل متعلّم من الآباء والأمهات؟".
يقارب الكاتب والمربي محمد بوطغان هذا الهاجس من زاوية أن هناك تحوّلات موضوعية عرفها الفضاء الجزائري، على أصعدة كثيرة، "ومن التعسّف أن نقارن زمناً بزمن آخر، من غير مراعاة هذه التحوّلات". من ذلك، بحسبه، ارتباط صورة الجيل القديم لدى الجيل الجديد، بعرقلته في مسعاه إلى حياة متحرّرة، "فبات الجدّ والجدّة معزولين في يوميات الأسرة، وظهرت دُور العجزة في التجمّعات السكنية الكبرى، في ظلّ فشل المنظومة العامّة في الوصول إلى مجتمع متناغم ومتكامل ومؤمن بخصوصية كلّ جيل".
غير أنّ هذا الفشل لا يسري على المناطق الجزائرية جميعها، بحسب بوطغان، ذلك أنّه مسّ المدن الكبرى أكثر، بسبب كونها أقرب إلى العشوائيات منها إلى التجمعات الحضرية، بما هي فضاءات تقوم على روح الاجتماع. يعطي مثالاً حيّاً على ذلك: "في منطقة بني مزاب، وبعض المفاصل في الشمال والجنوب، ما زالت زمام تسيير المجتمع، في يد الأعيان وكبار القوم، حيث يتحرّك الشاب ويتصرف وفق هذا العقد الاجتماعي الخاضع للأخلاق العامّة". يختم: "ما يؤسف له أنّها بقيت تجارب معزولة، ولم تعمل المنظومات المعنية على تبنّيها وتعميمها، أو الانخراط في ما يشبهها من بنيات المجتمع المدني الحديث".
في القطار الرابط بين مدينتي الثنية والجزائر العاصمة، صاحت فتاة تبيّن أنّها طالبة جامعية، طالبةً النجدة من الركاب، لأنّها تعرّضت للتحرّش من جليسها، غير أنّ الجميع التزم الصمت، مما دفعها إلى اتهامهم بالتواطؤ والسكوت على المنكر. "ها أنتم خائفون، أليس كذلك؟ لقد سمحتم لفرد غير متخلّق بأن يهزم ضمائركم". ولم يتحرّك بعض الركاب إلا بعدما همّ الفتى المتّهم بضربها.
وينفي الناشط المسرحي فتحي كافي أن تكون هذه الصورة نهائية في الشارع الجزائري الجديد، غير أنّها في طريقها إلى أن تصبح كذلك، بحسبه، إذا لم تتفطّن المنظومات المختلفة إلى ذلك وتتصرّف على أساسه. يقول: "في السابق، كانت الأيدي تمتدّ عفوياً لفكّ الشجار بين اثنين. أما اليوم، فباتت الأكثرية تتبنّى منطق جحا القائل إنّ ما يهمّه هو أن يتفادى رأسه". ويذهب كافي بعيداً بالقول: "ليس هذا حال الناس العاديين فقط، بل بات حال المثقفين والفنّانين أيضاً، إذ يندر التدخل للمصالحة بين المتخاصمين، خصوصاً بعد انتشار فيسبوك في حياتنا".