الجديد في المشهد العربي

18 اغسطس 2014
+ الخط -

مع بداية سنة 2011، سجل المشهد السياسي تعابير تغيير تختلف من قطر إلى آخر، اصطلح عليها بـ"الربيع العربي"، والذي دفعت إليه قوى لم تتمكن من تصريفه لفائدة إنجاز تغيير جذري. جسرت نقطة الضعف هذه التفاف أعوان المنظومة القديمة على المشروع، وقتلت النطفة في البيضة، فالذين تصدوا للتعبير عن صوت قوى الاحتجاج، لم يتموا ما هو في مستوى المهمة.

نصنف هذه القوى إلى ثلاثة أطياف: اليسار بمختلف تعبيراته، وهو الأضعف، لعجزه عن اختراق صد الوعي الجماعي. وبقطع النظر عن صدق هذه السمة أو بطلانها، فقد ترسخت لدى الرأي العام، أو على الأقل عند أغلبه، بفعل ما روجه عنه النظام وخصومه السياسيون، وأخطاء بعض رموزه المعادين للروح الجماعية المتسمة بالدين. وزاد ضعف اليسار، تشرذم مكوناته، فقد كان يفرق تعابيره أكثر مما يجمعها، خصوصاً في تونس، حيث عرف عن بعضه أنه تعامل مع نظام زين العابدين بن علي في ضربه الإسلاميين.

القوميون هم الطيف الثاني، ويعاني من متاعب احتكاكه بالطيف الإسلامي، فهو يغبط الإسلاميين على احتضان الشارع العربي لهم، ويرى نفسه أولى بذلك، وبقي مرتبكاً بين الاقتراب والابتعاد من الطيف الإسلامي.

وهذه مسألة معقدة جداً، ليس هذا مجال تحليلها. لكن هذه الحالة جعلته يتعثر ويتلعثم، ففاتته الفرصة من دون أن يستفيد منها، أو يؤثر فيها.

أما التيار الإسلامي، وخصوصاً طيف الإخوان المسلمين، فقد كان الأكثر بروزاً، والأكثر اندفاعاً للتصدي للتعبير عن صوت قوى الاحتجاج، وتم ذلك في لحظة اضطراب كلي ورؤية ضبابية. فلا الشارع خولهم لذلك، ولا الأطياف السياسية اتفقت على تقديمهم، لكن رصيدهم النضالي متعهم بأكبر رأسمال سياسي، وهو ما جعلهم لا ينتبهون لقصورهم.

جعلهم احتضان الشارع يتوهمون احتضان البلاد لهم، وهذا ضعف في الرؤية وقراءة الواقع وتفكيكه. وكان أن سكت الخصوم السياسيون على بروزهم، وذلك، لدى بعضهم، اعتراف بأحقيتهم في تسيير الشأن العام، لما دفعوا وتحملوا في أثناء فترة الاستبداد، وتوريطاً لهم عند خصومهم ذوي الدراية بتصريف الشأن السياسي.

ولم يتبع هذا الطيف المنهج نفسه في كل الأقطار، ففي مصر وتونس مثالان يتفقان في الفوز في الانتخابات، وهو فوز ورطهم أكثر من كونه خدمهم، لكنهم لم يتبعوا المسار نفسه، على الرغم من وحدة الهدف.

ففي مصر، تمسكوا بالشرعية الانتخابية، وتصدروا المشهد السياسي، وهو ما يرفضه نسبياً الواقع السياسي الإقليمي، وكلياً الواقع السياسي الدولي. ربما لم يكن الموقف على الدرجة نفسها في كل العواصم الغربية، ولكن عموماً، كان الموقف سلبياً من تسلم الإخوان المسلمين السلطة، ولعدة أسباب، أهمها أن الغرب لا يزال يرفض عودة الحياة في الحضارة الإسلامية، لنظرته لهذه المسألة من منطلق "صراع الحضارات"، وهذه قضية فكرية ثقافية حضارية، إلا أن الجناح المتطرف في الغرب سرعان ما يتجه إلى حسمها بالمدفع.

وهذا ما وقع في مصر، مع تمسك "الإخوان" بالشرعية الشعبية، إلى أن حسم الغرب الصراع بلغة الاستعمار والانقلابات العسكرية.

وفي تونس، حسمت قيادة النهضة أمرها منذ البداية، ولم تتصدر للسلطة منفردة، إنما تزعمت ائتلافاً أشركت بموجبه معها حزبين آخرين في السلطة، واتبعت، ما يحقق مغازلة طموحات الناخبين وأسماعهم، وما يتمنون، بالترافق مع الممارسة السياسية بالتنسيق مع العواصم الغربية، ممثلة في سفرائها، وكانت النتيجة الرضوخ لضغوط إقليمية، من طرف الجزائر خصوصاً الذي بين لقيادة الحركة أنه لا يرغب فيها في السلطة، وهو أمر تعيه قيادة الحركة جيداً.

في الحالتين، المصرية والتونسية، خرج الإخوان من السلطة مع الفارق: ففي مصر أخرجوا من السلطة بانقلاب عسكري، فتحالفوا مع الشعب، ودفعوا الضريبة مالاً ودماً، باختيارهم العضّ على الجرح النازف، لكنهم، وبكل وعي، ضربوا موعداً مع التاريخ، إذ يجمع جُل المحللين أن الانقلاب في مصر سيؤول إلى فشل.

بينما اختارت قيادة حركة النهضة، في تونس، منهجاً آخر، تقربوا بموجبه من المنظومة القديمة، إلى ما يقارب التماهي، وللقيادة عذرها، إذ راهنت على تجنب مواجهة تسبب آلاما لقواعدها التي لم يلتئم جرحها بعد. لكنها بذلك، ضربت تحالفاً مع المنظومة القديمة.

ثم كانت حرب غزة أكبر حماقة ارتكبها الكيان الصهيوني، فولدت إنجازات المقاومة، لدى الرأي العام العربي، روحاً معنوية جديدة، تبشر بعودة العرب إلى دورهم الحضاري في التاريخ البشري. قسم إنجاز المقاومة السياسة عربياً وإقليمياً، إلى مؤمن بهذا الإنجاز، ومستعد لما يترتب عليه من عودة العرب إلى دورهم التاريخي، وآخر يعتبر أن ما نراه لا يتعدى أن يكون زوبعة، سرعان ما تهدأ، وتعود الأوضاع إلى ما كانت عليه.

لا يصب هذا الوضع الجديد في مصلحة جهة، سوى المقاومة، ومن تعصب لها، فالحكام العرب، وبحكم ما ثقفوه، وصار ثقافة لهم، ليس باستطاعتهم أن يستسيغوا "وضعية علو" على الكيان الصهيوني، وينطبق هذا على منظمة التحرير، وقد تربت على الاستجداء، منذ خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في 1974، وطلبه من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ألا يسقطوا غصن الزيتون من يده، فكان له ذلك.

وأكبر متضرر، هو طبعاً، الكيان الصهيوني، ومن حالفوه ممن يجدون أنفسهم في مربع العزلة والهزيمة، خصوصاً أمام عجز من عول عليهم من الحكام العرب، ومن بعض قادة منظمة التحرير، في الوقوف علناً إلى جانبه.

إلا أن هذا الجديد، مهدد تماماً، كالربيع العربي، فغياب قوة سياسية تستثمر الفعل الجماهيري في الشارع العربي، وإنجاز المقاومة، يؤدى إلى استئساد قوى المنظومة السابقة، فترفض العودة إلى ما كان عليه الوضع السياسي، قبل التحرك الجماهيري. فالانتصار العسكري وتحقيق توازن الرعب يحتاج قيادة سياسية تستثمره.

avata
avata
المولدي اليوسفي (تونس)
المولدي اليوسفي (تونس)