الجدار

10 أكتوبر 2014
نفدت مخيّلتي، لم يعد ﻟﻲ ﻭﻃﻦ / Getty
+ الخط -
منذ سنة ﺃﻗﻀﻲ ﻟﻴﻠﻲ بالطريقة نفسها. الفرق ﺍلوحيد غالباً ما يكون ﻓﻲ عدد ﺍﻟﺴﺠائرالتي بحوزتي، أجلس ﻓﻲالغرﻓﺔ بعدما ﺃطفئ النور، ﻭأستمع ﺇﻟﻰ ﺍﻷغاني نفسها، ﻭﺃﺩﺧّﻦ. لكي ﺃﻫﺮﺏ من الوحدة ﻭالملل، ﺃبدﺃ بتخيُّل ﺃﻱّ شيء. أحياناً أتخيّل أنّي "ﺍﻵﻩ" المعلّقة في حنجرة ﺍﻟﻤﻐنّي، عندما يطلقني ﻓﻲ الهواء بين العلامات ﺍﻟموسيقية، أسرع فأحتضنها لأجعلها ﺃكثر حزناً: ﺩﻭ تعيسة/ ﻓﺎ سوﺩاء شاحبة/ مي ﺣﺰينة. 
منذ أيام، شعرتُ أنّ مخيّلتي قد نفدت. لم يبقَ ﻟﻲ شيء لم أستخدمه، فأصابني الخوف، ﻭبدﺃﺕ ﺃفكر كيف سأقضي ﻟﻴﻠﻲ بعد ﺍﻵﻥ، كيف أحيا؟ نفدت مخيّلتي، لم يعد ﻟﻲ ﻭﻃﻦ، فوقفتُ ﺃمام ﺃحد الجدران ﻭبدﺃﺕ ﺃصيح: "ﺃرجوكم... ﻻ تحبسوني ﺩاخلكم وحيداً".
أرجوك ﺃيها الجدﺍﺭ ضمّني لأصبح مثلك، وارتميتُ على الجدار ﻭبدﺃﺕ ﺃبكي ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺃﻏﻤﻲ ﻋﻠﻲّ. بعد ﻓﺘﺮﺓ ﺃفقت. حاولت ﺃﻥ أحرّك ﺭﺃسي، لكنّي لم أتمكن ﻣﻦ ﺫلك. حاولت ﺃﻥ أحرّك يدﻱّ، ﺃﻥ ﺃمشي، ﻟكن من ﺩﻭﻥ جدﻭﻯ. كنت مكبّلاً تماماً ﺇﻟﻰ ﺃﻥ دخلت أمي. ﺍﻗﺘﺮبت حاملة ﻓﻲ يدﻫﺎ صوﺭﺓ كبيرة لي ﻭأنا مبتسم كالأبله. ﻋﻠﻰ زاوية ﺍﻟصوﺭﺓ، وضعت شريطة سوداء. كانت أمي تنظر ﺇﻟﻰ ﺍﻟصوﺭﺓ وتبكي. ﻓﺠﺄﺓ اﻗﺘﺮبت مني ﻭثبّتت مسمارﺍً ﻋﻠﻰ جبيني ﻭبدﺃﺕ بضربه بالمطرقة، ﺫﻫلت:
- ﺃمي! ... ما بك؟ ﺃمي، هذﺍ جبيني، أتريدين ﻗﺘﻠﻲ بمسمار!
حاولتُ ﺍﻟنظر ﻓﻲ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ علّها ﺗﺮﺍني، علّها تعطف عليَّ، لكنّها اكتفت بتعليق الصورة بالمسمار. مضتْ ثلاثة ﺃيام ﻋﻠﻰ هذه ﺍﻟﺤﺎﻝ. ﻻ يسمعني ﻭﻻ ﻳﺮﺍني ﺃحد. ﺃحياناً كانت تُنزل ﺍﻟصوﺭﺓ وتحضنها، ﻭﺃنا ﻓﻲ ﻛﻞ مرة أحاول أن أقول لها: لمَ تكتفين باحتضان صوﺭتي، ما دمت أنا أمامك؟!
بقيت على حالي هذه ﺇﻟﻰ ﺃﻥ سقطت ﺍﻟﺒارحة قذﺍئف عدة ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻐﺮﻓﺔ، فانهارت جدرانها. ﺇحدى ﺍﻟقذﺍئف أصابت ظهري. تناثر جسدي ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ. حينها أسرع بعض الرجال ﻭبدأﻭا بالبحث ﻋﻦ أحدٍ ما قد يكون ﺩُﻓﻦ تحت ﺍﻟﺮكام..
ﺃحدهم اﻟﺘقط ﺭجلي ﻭﺭماها بعيدﺍً من ﺩﻭﻥ أن ينظر ﺇﻟﻴﻬﺎ. آخر داس على ﺭﺃسي ﻭتابع طريقه. ﺃمّا ﺃمّي فكانت تقف ببرود وبيدﻫﺎ حقيبة كبيرة. حملت ﺍﻟصوﺭﺓ ﻭﻭضعتها ﻓﻲﺍﻟﺤﻘﻴﺒﺔ ﻭبدﺃﺕ تلتقط بعض ﺍﻟﺮكام وتضعه في الحقيبة. ما أدهشني أنها كانت تختار ركامي فقط. وبعدما انتهت من جمعي، حملت حقيبتها ونزحت، نزحت بعيداً، ونزحتُ معها.

***
بلا رأس
بعد عامين من الانتظار في قبرها، سمعت أخيراً من جاراتها في القبور المجاورة أن طفلها أصبح في قبر قريب منها. سارعت فوراً إلى جمع ما تبقى من عظامها، وجدت عظمة واحدة لإحدى رجليها، أما الأخرى فقد وضعت مكانها عصا. أسدلت شعرها المتبقّي على وجهها لتخفي الفجوتين الفارغتين فيه، وبحثت كثيراً إلى أن وجدت بعض عظام الأصابع وعظمة طويلة، ركّبتها محل إحدى يديها.
فكّرت بأنّها، ربما في طريقها، تسطو على قبر لإحدى الأمهات لتسرق يداً أخرى لتستطيع احتضان طفلها كما يجب، وحده قلبها كان لا يزال على حاله.
بعدما انتهت من ترتيب جسدها، همّت مسرعة لتخرج، لكنّها اصطدمت بسقف القبر. حاولت أن تخرج من الجدار الجانبي بأن اندفعت بقوة، لكن دون جدوى. كانت جدران القبر أقوى من أن تخترقها عظامها الهشّة.
لكنّ عيني طفلها اللتين قفزتا إلى مخيّلتها، جعلتاها تجد طريقة أخرى، فبدأت بالحفر في التراب. أرادت أن تحفر حتّى تصل إلى قبره. في طريقها، انكسرت إحدى أصابعها، ودخلت إلى قبرين لم يكونا لطفلها، لكنّها نجحت عند الوصول إلى القبر الثالث.
عرفت ذلك عندما أخرجت رأسها من تراب القبر، فكان أوّل ما رأته هو دمية تمسك بها يد صغيرة، هي الدمية ذاتها التي اشترتها له منذ عامين.
لم تستطع أن توقف ينابيع الدموع التي فاضت من الفجوتين أعلى وجهها. منذ عامين وهي تنتظر هذه اللحظة. أسرعت واقتربت من جسده لتحتضنه، لتقبّله وتتلمّس وجهه... لكنّه كان بلا رأس.
دلالات
المساهمون