الجحيم الذي يحيط بنا

16 نوفمبر 2015
كيف لم يرحل بنا الأهل يوم كنّا صغاراً؟ (الأناضول)
+ الخط -

ربّما آن الأوان لأن يرحل الأبرياء عن هذه الأرض، من هذا المكان تحديداً. على كلّ الأبرياء أن يجمعوا أمتعتهم ويذهبوا. فلا مكان لهم في هذه البقعة الممتدة بين بحرين. يُذبحون، يُقصفون، يُرمون بالرصاص، لكن الفاعل ينطق باسمهم، فهو لهم. وهم له، لولاهم لما كان ولما قام. ومن دونهم هو لا شيء. فربما آن الأوان لأن يرحل الأبرياء عن هذا البحر وذاك. قد يملؤون عربات قطار وسطح باخرة. أو يركبون طائرات ضخمة لا براميل فيها ولا حمم. قد يذهبون سيراً على الأقدام وعلى دواب كما في القِدم. ربما يلوّحون لنا بمناديل وقبعات وبأيادٍ بيضاء، أو يصوّرون تخلّفنا بهواتفهم وهم يبتعدون براً وجواً وبحراً.

فلا يبقى في هذه الأرض سوى الأشرار والقتلة.. وهؤلاء لا يتقاتلون في ما بينهم. فدماؤهم لا تروي عطشهم. يعطشون حتى الموت، فيقضون في هذا الجحيم. لذلك، على الأبرياء أن يرحلوا عن هذه الأرض وبعد رحيلهم لا حسرة ولا ندم على شيء. فتصفو أجواء المعركة، علّ هذه الأرض تموت بمن بقي فيها وعليها. فتكون حكاية أخرى لانقراض الديناصورات، ديناصورات حديثة تنطق وتكتب وتدرس. لكنها مخلوقات غوغائية وغبية بطباعها، ومتوحشة بصميمها. فتقتل وتدمّر وتفجّر وتبتكر آلات قتل وتتفنّن بها.

كيف لم يرحل بنا الأهل يوم كنّا صغاراً، وكانت الحرب هنا واستمرّت لأكثر من عقدين؟ هم الأبرياء الذين قرروا الصمود والمقاومة والاستمرار في الحياة بين تفجير من هنا واشتباك من هناك. مرّت موجات التهجير و"التجزير" وبقوا في هذا المكان صامدين. خنقوا أحلامهم واستبدلوها بطموحات بسيطة تستّروا خلفها للبقاء في دائرة الحياة. هم الأبرياء الذين تم التنكيل بهم، لكنّهم الأقوياء الأشداء الذين حافظوا على أنفسهم وعائلاتهم. كسبوا معركة، لكن الحرب طويلة.

تفجير أول وثانٍ وثالث.. والرابع بعد العشرين. لا قدرة على العيش ولا على الصمود. الأبرياء إن بقوا على هذه الأرض فسيموتون، كباراً وصغاراً. وإن لم يموتوا في الحرب السابقة فسيفعلون في حرب اليوم أو حرب الغد. حتى أقوياء وأشداء الماضي سيموتون. هؤلاء أنفسهم الذين ربحوا معركة الأمس، أنجبوا وربّوا في هذه الأرض. وبالتالي تركوا وراءهم ما يلزم لاستمرار القاتل وطوابيره.

ولذلك على الأبرياء أن يرحلوا عن هذه الأرض بالذات، ببواخر أو بطائرات أو بقطارات، لا يهم. المهم فقط أن يلتقطوا لنا صورة من البرّ أو البحر أو حتى من الجو، لنعرف شكل الموت الذي نحن فيه، والجحيم الذي يحيط بنا بين هذا البحر وذاك.

اقرأ أيضاً: موت "معجّل مكرّر"
المساهمون