الجادّون
بالفعل.. الحياة تحتاج للكثير من المزاح و"الرواق" كي تعاش، تحتاج لقدرة بشرية تسخر على الدوام من الأشياء..
نحن الجادّون لا نعرف أن نأخذ الحياة من جانبها الخفيف السلس، وفي الوقت ذاته لا نندم كثيرا لكوننا جادين وجذريين، فنحاول التعامل مع أساس الفكرة، ولكنّ طلبنا للبهجة من خلال ذاك التعاطي ينضوي على مخاطرة ذاتية كبيرة وشديدة الإغراء ويسودها بذات الوقت الأفول والتضاؤل.
بالفعل نحن الجادّون أسرى لتقاليد عقلنا الجذري وإحساسنا المتطرف وغرورنا البريء الموهوب، ومع ذلك أشعر بالغبطة لأني وأمثالي ما زلنا نعتبر مناهضة الظلم قيمة كبيرة في الحياة، التفكير الجذري قريب من التفكير العدمي، فكلاهما يبحث عن خلاص نزق ومريح ومبدئي، فالإحساس بالعدم لا يمثل حالة الكراهية والسأم من الحركة المجتمعية بشكلها اليومي الديناميكي وبالتالي الهروب من المواجهة المباشرة والشعور باللاجدوى فحسب، وإنما ذاك الإحساس هو الشكل الأبهى للجمال عندما يكون واعياً لتلاشيه ولرؤيته الموغلة في القِدم.
في المحصلة، من الرائع والمثير أن يقودنا شعورنا العدمي إن جاز التعبير نحو التعاطف والرغبة بتغيير شيء ما، من ناحية أخرى أفكر كثيرا عن الذي تغير فعليا بإنسان العصور الوسطى بتجلياته العنفية الدموية وبين إنسان العصر الحالي المتحضر التقني النظيف البعيد "شكليا" ومكانيا عن أجواء العنف وقرفه وأقصد هنا الإنسان في القارة الأوروبية، أفكر دون رغبة بإجابة واضحة، أتخيل أن البشر هناك بعيدون عن خوفهم وعن حقيقة ذواتهم في منطقتنا، الناس قريبون من قلقهم وأزماتهم، اليوم نرى ونشعر بشكل كبير أن المقايضات تساهم في تكملة الحياة وجعلها معقولة لكل أطراف المعادلة الحياتية..
المقايضة بمعناها السياسي، الفكري، التقني، والمتنازِل أيضا.. تلك المقايضات لا ترضي الجميع لكنها تجعلهم يستمرون، تجعلهم يكملون مشوارهم.
بالنسبة للجذريين الجادين، تلك المنظومة الفكرية إنما هي تهديد للفجاجة والعفوية والبراءة التي تهفو إليها الذات، ومجابهتها على الدوام يكرس لدينا مقاومة حقيقية لجعل الحياة تبدو أجمل وأقل عنفا.
في حقيقة الأمر، عندما تأخذ المقايضة بجانبها المفاوض شكلها الشرعي للحصول على نتائج إيجابية سيكون من الضروري مقاومتها بالمباشر والصريح، كي لا تتحول إلى طريقة تفكير تشمل كل مناحي الحياة.