الثّروة الشبابيّة مهدّدة في تونس

22 يناير 2016
+ الخط -
ما بعد الثورة، وعلى غير العادة، عرف شباب وأطفال تونسيون الموت الإرادي بطرق شتّى، حرقاً أو صعقاً بالكهرباء، أو شنقا بالحبال أو غرقا في البحر، ولا يمرّ يوم من دون تسجيل حالة من هذا النوع. قد يكون الأمر، في ظاهره، تقليدا لمفجّر الثورة التونسية، المرحوم محمد بوعزيزي، أو يعود إلى أسباب أعمق بكثير. وعلى الرغم من هذا الخطر المحدق، إلا أن الحكومات المتعاقبة وجدت نفسها عاجزة، أو لم تهتم بما فيه الكفاية، لإيجاد الحلول الكفيلة بإنقاذ الثروة الشبابية المهددة، فأين تكمن هذه الحلول، ومن بيده تنفيذها؟
لا شكّ أن وضع الشباب في تونس في أحلك حالاته، وفي أعلى تجليّات خطورته، فداعش الإرهابية أصبحت قبلة حميدة، 5500 شاب تونسي يقاتل معها، يذبحون الأبرياء أينما وقعت عليهم أياديهم، بأبشع ما يمتلكون من مواهب في فنّ القتل. وستة آلاف شاب منعتهم السلطات من الالتحاق بهذا التنظيم في سورية، وهم الآن قنابل موقوتة داخل تونس. وعشرات يراوحون ما بين ليبيا وتونس، يتعلمون فنون القتال والتفجير، وعشرات يسكنون الجبال، يغدرون بالأبرياء من الرعاة، والفقراء، يسلبونهم طعامهم وما يملكون. ومئات يركبون البحر، هرباً من خصاصتهم وحرمانهم وفقدان كرامتهم، وغالباً ما ينتهون إلى أن تأكلهم الأسماك، ولا تعود جثثهم أبداً. وليس هذا فقط، فهناك ما يفوق 300 ألف شاب غارق في داء المخدرات، وما يفوق عدد ضحايا حوادث السير، يختارون الموت إرادياً حرقاً وشنقا. هذا الوضع الخطير الذي يعيشه شباب تونس لا بد وأن يعتبر أولوية الأوليات في بلد تنخر جوانبه المافيات الماليّة والسياسيّة التابعة للثورة المضادّة، مستغلّة إعلامها القويّ المحترف للإيحاء بأنّ الثورة هي السبب الوحيد والأوحد لهذه الظاهرة الخطيرة.
الأسباب كثيرة لهذه الظاهرة، إلا أنّ سببين اثنين اشترك فيهما أغلب هؤلاء الشباب، العطالة عن العمل والتصحّر الثقافي. وما ستكون عليه تفاعلات الكيمياء ما بين خليط من قوّة الشباب واندفاعه زائداً الفقر والحاجة والإحساس بالاغتراب وفقدان الهويّة وتقدير الذات؟ حتماً، لن تكون سوى ما عليه الوضع الآن.
والحقيقة أن الثورة لم تكن السبب في نشوء هذه الظاهرة، بل كان لها (أي الثورة) الفضل في كشف حقيقةٍ، لطالما حاول النظام القديم طمسها. والاستفادة من تعميق أسبابها. فالمخلوع بن علي لم يكن رجلاً مثقفاً، أو صاحب مشروع بناء دولة، كان كلّ همّه السيطرة على مفاصل الدولة، بقبضة من حديد، ولم تكن بطانته أفضل منه، فجمعت كلّ الانتهازيين، منهم من آثر السيطرة على مقاليد المؤسسات، ومنهم من آثر سرقة أموال الشعب وتفقيره. وعمل هذا المركّب الانتهازي القابض على السلطة على عزل الشعب وتهميشه، وضرب ثقافته وهويته، وأوجد جيلا منكسر الخواطر، مهزوزاً نفسيا، فاقداً كل أمل، ميالاً للعنف والانتقام، فجاءت الثورة لتكسر كل حواجز الخوف وآلات القمع التي كانت تقف حائلاً دون إظهار الحقيقة، الحقيقة التي يتآكل فيها الشباب، ويقتل ويموت إرادياً، من دون غاية تذكر، بعيداً عن كل أمل في حلول سريعة وواضحة، تتكاتف من أجلها كل قوى الدولة والشعب.
والحلول، إذا أردنا، لا بدّ وأن تتّجه مباشرة إلى إيجاد مواطن الشغل لكلّ الشباب، وإلى دعم الخطاب الروحي الذي يعيد الثقة للنفس، والإحساس بقيمة الذات. العمل سيوفّر لكل شاب موقع قدم ثابتا على أرض البلاد التونسية، وسيعيد إليه فكرة الانتماء إلى الوطن. العمل سيعطل تلك الطاقة الشبابية الهائلة المتّجهة إلى العنف، سيوجّهها إلى الخلق، وربّما إلى الإبداع. ودعم الخطاب الروحي والنفسي لا بدّ وأن يمرّ، أولا، من بوابة الإعلام الذي لا بدّ وأن يتحلّى ولو بالقدر الأدنى من المسؤولية، وعدم بثّ خطابات العنف، والفرقة، والتنابز، والإقصاء والعنصرية، والسجالات الأيديولوجية الحاقدة المدمّرة. وثانياً، العمل على فتح كل قنوات الحوار المعتدل والتسامحي، منها المساجد، وتشجيع الحديث الديني الوسطي المعتدل، والدعوات إلى التعايش السلمي بين كلّ الأطراف، في ظل العدل والمساواة وتكافؤ الفرص.
ومن ينفد هذه الحلول العاجلة حتما هي الدولة، إلا أن الدولة التونسية ما بعد الثورة بقيت رهينة عنصرين. الأول، الصراع الأيديولوجي لنخب منبتة عن المجتمع ولا تدرك حقيقته. والثاني، اتحاد الشغل الذي هو الحاكم الفعلي للمؤسسات، وهو الذي منع التشغيل بآليتين. الأولى، منع التشغيل في اتجاه إثارة الاحتجاجات والإضرابات للزيادة في الأجور. والثاني، ضرب الإنتاج وتخفيضه إلى أقل مستويات ممكنة، ما أوهن الدولة فالتجأت إلى الاستدانة، وربما الإفلاس، إذا استمر هذا النهج.
وشبح إفلاس الدولة أصبح يلوح من بعيد، خصوصاً بعد أن قال محافظ البنك المركزي إن الاقتصاد في حالة انكماش، وهو ما سيزيد من التأكيد على أن الثروة الشبابية مهددة حقا.
9F050F52-E60E-4E02-8779-EC6C876D09AD
9F050F52-E60E-4E02-8779-EC6C876D09AD
محجوب أحمد قاهري (تونس)
محجوب أحمد قاهري (تونس)