الثورة لن تكون افتراضية... بل في الشارع

24 اغسطس 2020
+ الخط -

في لحظة تأمّل، وعلى وقع كلمات أغنية "الثورة لن تكون متلفزة" للمغني والشاعر الأميركي جيل سكوت هيرون، نحاول مقاربة وتيرة ثورة تشرين الأول/ أكتوبر في لبنان والأسباب وراء تماوجها وانكفائها وذروتها.

استوحى هيرون كلمات الأغنية من التغطية الإعلامية لبعض المظاهرات المناهضة للتمييز العنصري في العام 1970 معايناً ظاهرة "تلفزة" الثورة ومُنادِياً بخوضها مباشرة في الشارع، حيث تنتمي. بعد انقضاء خمسة عقود، لا تزال كلمات الأغنية تُحاكي الثوار في العالم والمنتفضين ضد الظلم أينما كانوا، فيتساءل اللبناني عن ثورته: هل تعاني ثورة تشرين من الآفة نفسها؟ هل يتم خوضها في المكان الخطأ؟

انطلقت ثورة 17 تشرين بوتيرة عالية وحماسية قابلها صمود من الثورة الرافضة أن يزيحها أحد عن عرشها. ثم ولحسن حظ السلطة أتت جائحة كورونا لتصفع جهود الثوار وتمتص حماستهم.

توازياً، كان هناك مجهود ثوري كبير يُبذل في فضاء الإنترنت اللامحدود من خلال المنصات العديدة المتاحة أمام الشعب. وُلِدَ من مخاض الثورة عدد كبير من الصفحات والمبادرات والمؤثرين والناشطين من خلفيات مختلفة تفرّغوا على مدار الساعة لشن حملات رقمية على السلطة. تقول الناشطة كلوي كطار في هذا السياق: "الثوار هم الذين بدأوا ما يسمى الثورة الافتراضية من خلال الحملات ودعوات التجمع على وسائل التواصل عبر تحويلهم الفضاء الافتراضي إلى مساحة مشتركة مكمِّلة للعمل الفعلي على الأرض".

تدريجياً، بدأ وهج الثورة يخف وراحت تأخذ شكلاً جديداً مغايراً. أصبحت التحركات الشارعية محدودة تفتقد للزخم مع استمرار الحملات الإنستغرامية والتويتيرية الممنهجة، ولكن التي قلما يرف للسلطة تجاهها جفن. ما الذي جعل الثورة "مرقمة"؟

يُجمع الجميع على حتمية ضلوع السلطة في استراتيجيات مضادة لإرهاق الثورة وتشتيتها مما أدى إلى إضعافها أو التخفيف من وهجها

الإدمان الضمني على التفاعل والشهرة: بفعل ارتفاع الطلب الجماهيري للحصول على محتوى يتعلّق بالثورة، أكسب العديد من الأشخاص وبسرعة، شهرة واسعة، وصار عدد متابيعهم بالآلاف ينتظرون بلهفة البوست أو الستوري أو التغريدة المقبلة.

تنتج عن هذا النمو في الحضور والتأثير الرقمي لذة ضمنية واكتفاء ذاتي يدمن عليه الناشطون، وينتشون من عدد اللايكات أو الريتويت. يعلق الخبير في التواصل الاجتماعي فريد خليل: "قد يرى البعض أنه يقود ثورته من هاتفه حيث لا سقف للحرية، لا أحد يتعرض له، وتسقط المحرمات السياسية فيغرد ويقول ما يريد، يحصد المعجبين، يشعر بنشوة انتصار لطالما أرادها... ولكن تأتي افتراضية!".

كما لا يُخفى أن لوسائل التواصل أثراً نفسياً على الشخص، يضيف خليل: "تخلق الإشعارات تأثيراً كيميائياً في عقل الإنسان عبر إفراز هرمون السعادة، الدوبامين، نتيجة اهتمام معين، ما يولّد الحاجة إلى المزيد من التفاعل".

وفي إطار الثورة، يقول خليل: "عندما يكون هناك رأي عام موحد يرى الإنسان نفسه ينحاز تلقائياً إلى هذا الإطار الذي يخلقه السوشيال ميديا، ويصبح أسير هذا العالم إلى درجة الانفصال عن الواقع".

حرية التعبير المطلقة (بصرياً وكلامياً): تتيح منصات وسائل التواصل التعبير بشكل مطلق، وفي كثير من الأحيان لاذع، مدعوم بمختلف أنواع الوسائل البصرية والسمعية، قادر على الوصول إلى شريحة كبيرة من المجتمع.

تعتيم الإعلام التقليدي: ما إن بدأت السلطة تتدارك خطورة وحراجة موقفها حتى تضاءل، صدفةً، الاهتمام بتحركات الثورة وأصبحت التغطية عبارة عن نقل مباشر وجيز. لعب عندها الناشطون دور المراسل وعمدوا إلى توثيق التحركات بأنفسهم صابّين تركيزهم على نقل الحدث بدل أن يكونوا هم الحدث. يعتبر المخرج والناشط اللبناني لوسيان بورجيلي أن "تغطية الإعلام التقليدي ضئيلة أو منحازة للسلطة والبروباغندا التابعة لها، فتصبح عندها السوشيال ميديا إعلاماً بديلاً ليصل الصوت المعارض كاملاً وغير مجتزأ".

الحرب الإلكترونية: استدرجت السلطة الثوار إلى معركة سياسية في فضاء الإنترنت بدل الشارع، من خلال إطلاقها للذباب الإلكتروني الذي ينصرف إلى "تسيير المتابعين بطريقة معينة من خلال إطلاق buzz أو trend معين"، كما يعرض الخبير فريد خليل، وهو ما استوجب من الناشطين التفرغ للـ"مقاومة"، من على الكنبة، ساعين وراء انتصارات وهمية غير مؤثرة وغير فعالة. يستنتج الصحافي جاد غصن "أن هناك محاولات، كما في الشارع، لتوجيه السوشيال ميديا وركوب الثورة من خلال الجيوش الإلكترونية، ولكن إغراق أي نقاش في صراع مع الجيوش الإلكترونية ما هو إلا هدف واضح للترهيب أو محاولات ضغط على أطراف/أشخاص معينين للخضوع إلى جوٍّ عام". يوافق المخرج بورجيلي على هذا الاستنتاج ويعتقد أن "السلطة أصبحت موجودة وبقوة على وسائل التواصل لتراقب ما يحصل وتحاول تحوير الغضب بعيداً عنها من خلال ثورة مضادة".

يُجمع الجميع على حتمية ضلوع السلطة في استراتيجيات مضادة لإرهاق الثورة وتشتيتها، ما أدى إلى إضعافها أو التخفيف من وهجها. يشمل تكتيك السلطة، بحسب بورجيلي، "تخوين المتظاهرين، ترهيبهم، وتشكيل حكومة أقنعة". يتلاقى خليل مع هذا الطرح فيرى أن الثورة تراجعت بسبب "تمكن السلطة من إعادة التموضع، ومن ثم الكورونا، بالإضافة الى السعي وراء انتصارات وبطولات فردية افتراضية يقع في فخها الناشطون".

"النشاط الافتراضي لا يُغني عن النشاط الفعلي على الأرض، والعكس صحيح"، يقول غصن، مرسخاً موقف كطار، التي تشدد على أن المسارين متلازمين، لا بل تؤمن بأن "انتقال الثورة الى الملعب الافتراضي هو لصالح الثورة ويساهم في إبقاء نبضها ونارها مشتعلة".

وبالتالي فإن وتيرة الثورة الإلكترونية لا تزال تصاعدية، فهل هي مسألة وقت قبل أن تنتقل العدوى إلى الشارع من جديد؟

دلالات
مدون من لبنان
بلال خريس
كاتب وباحث لبناني.. أعمل في مجال الموارد البشرية، أسست صفحة The Street Pulse على إنستغرام وتويتر لإستطلاع الآراء ونبض الشارع