11 فبراير 2019
الثورة السورية ومسار اللامفاوضات في جنيف (3-4)
صدر في سبتمبر/ أيلول من عام 2013 القرار 2118 عن مجلس الأمن، وتناول استعمال الأسلحة الكيميائية في سورية، بعد مجزرة الغوطة الشرقية، وضم بيان جنيف1 (صدر في 5 يوليو/ تموز 2012)، والذي وضع أسس الحل والانتقال السياسي في سورية، بدءا بتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، ما يعني أن رحيل بشار الأسد هو الخطوة المؤسسة لانطلاق المرحلة الانتقالية. ووفق هذا الفهم لبيان جنيف، كان المسار التفاوضي سيفضي إلى وقف إبادة السوريين، وتحقيق طموحهم في تغيير نظام الحكم، لو أنه اقترن بإرادة دولية جادة وحاسمة في ضرورة وقف الجريمة التاريخية المعلنة بحق السوريين والقيم الإنسانية من الأسد وحلفائه، لكن ذلك لم يحصل.
ومع انطلاق الجولة الأولى من مفاوضات جنيف في يناير/ كانون الثاني لعام 2014، شهدت المعارضة السورية تبايناً في الرأي بشأن المشاركة في مفاوضات جنيف من عدمها، حيث امتنعت عدة فصائل من الجيش الحر والجبهة الإسلامية عن المشاركة، باعتبار أن المؤتمر يؤسس لخفض سقف تطلعات الثوار، بينما شارك الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، مدعوماً من بعض فصائل الجيش الحر في مقدمتها جبهة ثوار سورية.
بيان فيينا
حال الفيتو الروسي، وأولوية الاتفاق النووي الإيراني لدى الرئيس الأميركي، باراك أوباما، دون تحقيق مفاوضات جدية، فسرعان ما بدأت عملية تمييع موقف المعارضة، وتكسير حدة بيان جنيف، وهو ما تحقق لها لاحقاً بعد التدخل الروسي في سورية (30 /9 /2015)، من خلال مؤتمر فيينا (نوفمبر/ تشرين الثاني 2015) الذي أسس للقبول بدور إيراني في الحل.
وكانت هذه من نتائج الرغبة الأميركية في التراجع عن دور فعال في الملف السوري، وهو الذي أضعف مجموعة أصدقاء سورية، وساهم في فقدان المعارضة السورية قرارها لصالح القوى الإقليمية والدولية، ما أوجد فراغاً شجع موسكو للعمل على استثماره والانقلاب على بيان جنيف، لتعيد تأويله من خلال التوافقات مع الدول المؤثرة على المعارضة، ليصدر استنادا إلى ذلك البيان الختامي لاجتماع فيينا، والذي ارتكز على بيان جنيف. وفي حقيقة الأمر، تضمن بيان فيينا تجاوزا لفكرة جوهرية متعلقة بشكل الحكم الانتقالي، كان بيان جنيف قد نص عليها، وهي ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة. بينما دعا بيان فيينا إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية، الأمر الذي أسّس لتمييع مفصلية رحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، لكون كل الصلاحيات التنفيذية ستكون محصورة بهيئة الحكم الانتقالي بحسب جنيف، وهو ما نقضه بيان فيينا.
القرار 2254 وضمّ المنصات
بعد مؤتمر الرياض الذي تشكلت بموجبه الهيئة العليا للمفاوضات (ديسمبر/ كانون الأول
2015)، والذي نالت الفصائل الثورية تمثيلاً داخلها، إضافة إلى الائتلاف الوطني وهيئة التنسيق وشخصيات مستقلة، اعتقدت المعارضة أنها قد سدّت الثغرة التي لطالما أشارت إليها روسيا وإيران، وأحيانا دول من أصدقاء الشعب السوري، وهي قضية التمثيل الحقيقي. لكن سرعان ما عقدت مجموعات من الأشخاص وأحزاب "السوشيال ميديا" لقاءات في القاهرة وموسكو وأستانة، لتؤسس منصات معارضة، سيشير قرار مجلس الأمن 2254 إليها إلى جانب الهيئة العليا للمفاوضات.
بعد تفاهمات وزيري الخارجية، الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، وليس بعيداً عن تفاهمات كيري ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف، وبداية التدخل الروسي الذي ركز على قصف مقرات الجيش الحر ومعسكراته، فضلاً عن المدنيين، وعلى الرغم من تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات قبل أيام، تحقق التراجع المفصلي المطلوب ليصدر قرار مجلس الأمن 2245 (18 /12 /2015) الذي أسس لوجود ما تسمى منصات معارضة تحت مسمى منصتا القاهرة وموسكو، وأسس لمرجعية جديدة، بدأت تطغى على قرار مجلس الأمن 2118 وبيان جنيف.
وبعد شهرين فقط من صدور قرار مجلس الأمن 2254، وفي مؤتمر ميونيخ للأمن، بدأت الدندنة الأميركية على وقع بيان فيينا وهذا القرار بشأن إمكانية بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وهو ما دفع رئيس الهيئة العليا للمفاوضات، رياض حجاب، إلى إبلاغ الوزير كيري استعداده لقطع أصابعه، بدلا من توقيع اتفاق يسمح ببقاء الأسد في المرحلة الانتقالية.
"لا تكترثوا، الهيئة هي الأساس، والكلام عن منصات القاهرة وموسكو مجرد إشارة لن تعطيهم أي وزن.."، رسالة رددها سابقاً معظم المبعوثين من دول أصدقاء سورية، في محاولة إلى دفع المعارضة إلى أن تتجاوز هذه السقطة المتعمدة في القرار الأممي الذي أسس، بكل وضوح، لتفتيت المعارضة بما يتماشى مع رغبات روسيا. والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه: ما هي عواقب عدم قبول ضم منصات القاهرة وموسكو إلى وفد المعارضة السورية، في غياب الحاضنة الشعبية لهذه المنصات؟ بل ينظر الشعب الثائر في عمومه إلى هذه المنصات على أنها من أشكال الاختراق الذي تحاول روسيا وحلفاؤها فرضه على المعارضة لإضعافها من الداخل، وما الذي تخشاه الهيئة العليا للمفاوضات، فيما لو أعلنت رفضها هذه المنصات، ورفضها تقديم أي تنازل في هذا الصدد، خصوصاً وأنه في اجتماع الرياض الذي كان مراداً منه أن يشكل وفداً موحداً للمعارضة، يضم منصتي القاهرة وموسكو، والذي تزامن مع الذكرى الرابعة لمجزرة الكيميائي البشعة في الغوطة الشرقية، جددت منصة موسكو "المعارضة" تمسكها ببقاء بشار الأسد على سدة الحكم في سورية!
جنيف 4
بعد إعادة هيكلة وفد الهيئة العليا للمفاوضات في الرياض، ليضم مزيداً من ممثلي الفصائل
الثورية، وتحديداً المشاركة في مفاوضات أستانة، قرّرت الهيئة العليا المشاركة في الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف. ولاحقاً، وبعد دموع من مبعوثة دولة صديقة، ورجاء وضغط من مبعوثي دولة أخرى (يفترض أنها صديقة)، وبطريقة غير مفهومة، تضاربت حولها الروايات، أبلغ رئيس بعثة الهيئة العليا حينها إلى جنيف يحيى قضماني الوفد المفاوض، برئاسة نصر الحريري، بموافقة الهيئة على مشاركة الوفد في افتتاح الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف، إلى جانب المنصات الأخرى، الأمر الذي شكل إقراراً وقبولاً بوجود تلك المنصات.
وكان مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، والذي كان يعمل بشكل دؤوب ليوحي للمجتمع الدولي أن مفاوضات جنيف مستمرة، يواجه تحديا كبيرا، بفعل رفض النظام الانخراط في مفاوضات جدية وفق قرار مجلس الأمن 2254، وبحث الانتقال السياسي، وبالتالي فإن خيارات دي ميستورا كانت محدودة، بسبب تعنت النظام تجاه سلة الحكم والانتقال السياسي، ما دفعه إلى تجاوز توازي بحث السلال، وبدء الهروب إلى الأمام، بالتركيز على سلال الانتخابات والدستور. ولم تمر هذه المحاولة على وفد الهيئة العليا الذي وافق على بحث القضايا الدستورية المتعلقة بالانتقال السياسي، ليجد دي ميستورا نفسه أمام خيار وحيد: تحويل المفاوضات من مفاوضات بين النظام والمعارضة إلى مفاوضات بين المعارضة والمعارضة.
السلال الأربع ومسألة الدستور
بات واضحا، في الجولتين الأخيرتين من مفاوضات جنيف، أن ما يجري في قاعات الأمم المتحدة يشكل الانعكاس التام لتعاطي المجتمع الدولي مع القضية السورية، نفوذ روسي يدير تقريبا مسار جنيف كما مسار أستانة، وإن كان ظاهر الحال في جنيف يوحي بوجود رعاية دولية، إلا أن الوقائع تثبت أن هذه الرعاية غائبة بشكل شبه كلي، فالتركيز على "سلة الدستور" في موازاة بحث ملف المعتقلين والمختطفين وتقليص أيام الجولات واستبعاد المضي في "سلة الحكم" التي تستند إلى الانتقال السياسي، وتناول إعادة هيكلة الجيش والمخابرات ... إلخ، يشير بوضوح الى تماهٍ كامل بين مساري جنيف وأستانة الذي تساهم روسيا في صياغة معظم تفاصيله.
طرح المبعوث الأممي، دي ميستورا، مقترحه حول "آلية التشاور" الخاصة بالدستور، ليتبين لاحقا أن هذا المقترح يجسد توجهاً شخصياً من دي ميستورا نفسه، مستنداً في ذلك إلى الرؤية الروسية التي عبر عنها رئيس وفد روسيا، الأميرال إيغور، في أول لقاءاته مع وفد الفصائل الثورية في أنقرة قبل اتفاق حلب، حيث أبدى عدم تمسك بلاده ببشار الأسد، لكنها تعارض رؤية المعارضة السورية في تغييره، وهي ترى (روسيا) أن التغيير الذي يمكن لها أن تقبله وتدعمه أيضاً هو الدعوة إلى مؤتمر وطني عام، يفرز لجنة دستورية، تضع مسودة لدستور تجري، بالاستناد له، انتخابات تحت إشراف دولي، ثم قال "العرب السنة هم الأغلبية، وبالتالي لن ينجح بشار، وعندها لن نقف في وجه إزاحته". وأكدت هذا الطرح محاولة رئيس الوفد الروسي إلى أستانة 1، ليفرنتيف، تقديم مسودة للدستور إلى وفد القوى العسكرية الثورية، وهو المقترح الذي واجه رفضاً تركياً.
السعي الروسي في مسألة الدستور مستمد من استراتيجية الالتفاف على مسألة رحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، بجعل الدستور الجديد ناظما لانطلاق المرحلة الانتقالية وآليات الحكم، وبالتالي جعل الحكم، من حيث التوزيع والشكل، محكوما بالمرجعية الدستورية، وليس بصيغة اتفاق الانتقال السياسي الذي يراد من مفاوضات جنيف الوصول إليه.
من جهة أخرى، سيتحقق الانخراط في مسألة الدستور قبل الانتهاء من البت بقضية الانتقال السياسي (سلة الحكم) تفتيتاً كلياً، ليس فقط للمعارضة السورية المتهمة بنقص التمثيل، بل
سيمتد هذا الصراع إلى أبعد من ذلك، إلى المجتمع السوري، وبالتالي تحويل وجهة الصراع بين معارضة وثورة مع نظام مستبد ومحتلين للأرض السورية إلى صراع بين العرب والأكراد والمسيحيين والمسلمين، وصراع أكبر بين الطوائف. وفي ظل هذه الفوضى المعقدة التي قد تمهد لحرب أهلية واسعة، سيكون وارداً جداً ارتفاع أسهم الأسد حلا لضبط هذه الصراعات.
ويبدو أن سحب دي ميستورا "آلية التشاور" الخاصة بالدستور لم يكن بسبب اعتراضات المعارضة وحسب، وإنما أيضا بسبب اعتراضات دولية، خصوصاً من واشنطن التي تتابع المفاوضات بطريقة غير مباشرة. ذلك أن التركيز على الدستور، والحديث عن مؤتمر للحوار الوطني، يمثلان إرادة روسية خالصة في الانقلاب على التراتبية المذكورة في الفقرة الرابعة من قرار مجلس الأمن 2254.
يترتب على وفد الهيئة العليا للمفاوضات التمسك الكامل بمناقشة السلال بالتوازي، انطلاقا من سلة الحكم بشكل رئيسي، ورفض المضي في بحث تفاصيل سلة واحدة بمعزل عن الأخرى، استناداً إلى التراتبية التي حددتها الفقرة الرابعة من القرار 2254، وهو ما يفرض البدء في تطبيق السلة الأولى (الحكم) على أرض الواقع، وهو ما أكده دي ميستورا لوفد المعارضة في "جنيف 5".
ولم تكن مصادفةً وضع أولوية الحكم في الجدول الزمني، إذ لا يُعقل وضع الدستور أو قانون الانتخابات قبيل البدء في تنفيذ المرحلة الانتقالية.
كيف... أيها العالم الأحمق؟
لا يزال التعنت سمة تعاطي نظام الأسد مع مسار جنيف، انطلاقا من رفضه القاطع المضي في أي حل يجرده من السلطة أو حتى يقلص سلطاته، مستنداً في ذلك إلى نفوذ روسي إيراني في مواجهة مواقف متراجعة لحلفاء الثورة السورية، وهو ما يجعل الوصول إلى حل سياسي حقيقي أمراً مستبعداً في المدى المنظور. وليس على المعارضة، في ظل هذا الاستعصاء، أن تستجيب لدعوات إبداء المرونة والواقعية السياسية، وتقديم تنازلات تسهم في دفع العملية السياسية في جنيف، بل عليها أن تجدّد التزامها الكامل بتطلعات الشعب السوري، ودعواته التي كان أكثرها وضوحاً دعوة المتظاهرين في معرّة النعمان قبل أيام، حين رفع المتظاهرون لافتة تسأل: كيف يبقى رئيساً من قتل مليوناً من الشعب.. أيها العالم الأحمق؟
فعلاً.. كيف أيها العالم الأحمق؟
ومع انطلاق الجولة الأولى من مفاوضات جنيف في يناير/ كانون الثاني لعام 2014، شهدت المعارضة السورية تبايناً في الرأي بشأن المشاركة في مفاوضات جنيف من عدمها، حيث امتنعت عدة فصائل من الجيش الحر والجبهة الإسلامية عن المشاركة، باعتبار أن المؤتمر يؤسس لخفض سقف تطلعات الثوار، بينما شارك الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، مدعوماً من بعض فصائل الجيش الحر في مقدمتها جبهة ثوار سورية.
بيان فيينا
حال الفيتو الروسي، وأولوية الاتفاق النووي الإيراني لدى الرئيس الأميركي، باراك أوباما، دون تحقيق مفاوضات جدية، فسرعان ما بدأت عملية تمييع موقف المعارضة، وتكسير حدة بيان جنيف، وهو ما تحقق لها لاحقاً بعد التدخل الروسي في سورية (30 /9 /2015)، من خلال مؤتمر فيينا (نوفمبر/ تشرين الثاني 2015) الذي أسس للقبول بدور إيراني في الحل.
وكانت هذه من نتائج الرغبة الأميركية في التراجع عن دور فعال في الملف السوري، وهو الذي أضعف مجموعة أصدقاء سورية، وساهم في فقدان المعارضة السورية قرارها لصالح القوى الإقليمية والدولية، ما أوجد فراغاً شجع موسكو للعمل على استثماره والانقلاب على بيان جنيف، لتعيد تأويله من خلال التوافقات مع الدول المؤثرة على المعارضة، ليصدر استنادا إلى ذلك البيان الختامي لاجتماع فيينا، والذي ارتكز على بيان جنيف. وفي حقيقة الأمر، تضمن بيان فيينا تجاوزا لفكرة جوهرية متعلقة بشكل الحكم الانتقالي، كان بيان جنيف قد نص عليها، وهي ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة. بينما دعا بيان فيينا إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية، الأمر الذي أسّس لتمييع مفصلية رحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، لكون كل الصلاحيات التنفيذية ستكون محصورة بهيئة الحكم الانتقالي بحسب جنيف، وهو ما نقضه بيان فيينا.
القرار 2254 وضمّ المنصات
بعد مؤتمر الرياض الذي تشكلت بموجبه الهيئة العليا للمفاوضات (ديسمبر/ كانون الأول
بعد تفاهمات وزيري الخارجية، الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، وليس بعيداً عن تفاهمات كيري ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف، وبداية التدخل الروسي الذي ركز على قصف مقرات الجيش الحر ومعسكراته، فضلاً عن المدنيين، وعلى الرغم من تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات قبل أيام، تحقق التراجع المفصلي المطلوب ليصدر قرار مجلس الأمن 2245 (18 /12 /2015) الذي أسس لوجود ما تسمى منصات معارضة تحت مسمى منصتا القاهرة وموسكو، وأسس لمرجعية جديدة، بدأت تطغى على قرار مجلس الأمن 2118 وبيان جنيف.
وبعد شهرين فقط من صدور قرار مجلس الأمن 2254، وفي مؤتمر ميونيخ للأمن، بدأت الدندنة الأميركية على وقع بيان فيينا وهذا القرار بشأن إمكانية بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وهو ما دفع رئيس الهيئة العليا للمفاوضات، رياض حجاب، إلى إبلاغ الوزير كيري استعداده لقطع أصابعه، بدلا من توقيع اتفاق يسمح ببقاء الأسد في المرحلة الانتقالية.
"لا تكترثوا، الهيئة هي الأساس، والكلام عن منصات القاهرة وموسكو مجرد إشارة لن تعطيهم أي وزن.."، رسالة رددها سابقاً معظم المبعوثين من دول أصدقاء سورية، في محاولة إلى دفع المعارضة إلى أن تتجاوز هذه السقطة المتعمدة في القرار الأممي الذي أسس، بكل وضوح، لتفتيت المعارضة بما يتماشى مع رغبات روسيا. والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه: ما هي عواقب عدم قبول ضم منصات القاهرة وموسكو إلى وفد المعارضة السورية، في غياب الحاضنة الشعبية لهذه المنصات؟ بل ينظر الشعب الثائر في عمومه إلى هذه المنصات على أنها من أشكال الاختراق الذي تحاول روسيا وحلفاؤها فرضه على المعارضة لإضعافها من الداخل، وما الذي تخشاه الهيئة العليا للمفاوضات، فيما لو أعلنت رفضها هذه المنصات، ورفضها تقديم أي تنازل في هذا الصدد، خصوصاً وأنه في اجتماع الرياض الذي كان مراداً منه أن يشكل وفداً موحداً للمعارضة، يضم منصتي القاهرة وموسكو، والذي تزامن مع الذكرى الرابعة لمجزرة الكيميائي البشعة في الغوطة الشرقية، جددت منصة موسكو "المعارضة" تمسكها ببقاء بشار الأسد على سدة الحكم في سورية!
جنيف 4
بعد إعادة هيكلة وفد الهيئة العليا للمفاوضات في الرياض، ليضم مزيداً من ممثلي الفصائل
وكان مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، والذي كان يعمل بشكل دؤوب ليوحي للمجتمع الدولي أن مفاوضات جنيف مستمرة، يواجه تحديا كبيرا، بفعل رفض النظام الانخراط في مفاوضات جدية وفق قرار مجلس الأمن 2254، وبحث الانتقال السياسي، وبالتالي فإن خيارات دي ميستورا كانت محدودة، بسبب تعنت النظام تجاه سلة الحكم والانتقال السياسي، ما دفعه إلى تجاوز توازي بحث السلال، وبدء الهروب إلى الأمام، بالتركيز على سلال الانتخابات والدستور. ولم تمر هذه المحاولة على وفد الهيئة العليا الذي وافق على بحث القضايا الدستورية المتعلقة بالانتقال السياسي، ليجد دي ميستورا نفسه أمام خيار وحيد: تحويل المفاوضات من مفاوضات بين النظام والمعارضة إلى مفاوضات بين المعارضة والمعارضة.
السلال الأربع ومسألة الدستور
بات واضحا، في الجولتين الأخيرتين من مفاوضات جنيف، أن ما يجري في قاعات الأمم المتحدة يشكل الانعكاس التام لتعاطي المجتمع الدولي مع القضية السورية، نفوذ روسي يدير تقريبا مسار جنيف كما مسار أستانة، وإن كان ظاهر الحال في جنيف يوحي بوجود رعاية دولية، إلا أن الوقائع تثبت أن هذه الرعاية غائبة بشكل شبه كلي، فالتركيز على "سلة الدستور" في موازاة بحث ملف المعتقلين والمختطفين وتقليص أيام الجولات واستبعاد المضي في "سلة الحكم" التي تستند إلى الانتقال السياسي، وتناول إعادة هيكلة الجيش والمخابرات ... إلخ، يشير بوضوح الى تماهٍ كامل بين مساري جنيف وأستانة الذي تساهم روسيا في صياغة معظم تفاصيله.
طرح المبعوث الأممي، دي ميستورا، مقترحه حول "آلية التشاور" الخاصة بالدستور، ليتبين لاحقا أن هذا المقترح يجسد توجهاً شخصياً من دي ميستورا نفسه، مستنداً في ذلك إلى الرؤية الروسية التي عبر عنها رئيس وفد روسيا، الأميرال إيغور، في أول لقاءاته مع وفد الفصائل الثورية في أنقرة قبل اتفاق حلب، حيث أبدى عدم تمسك بلاده ببشار الأسد، لكنها تعارض رؤية المعارضة السورية في تغييره، وهي ترى (روسيا) أن التغيير الذي يمكن لها أن تقبله وتدعمه أيضاً هو الدعوة إلى مؤتمر وطني عام، يفرز لجنة دستورية، تضع مسودة لدستور تجري، بالاستناد له، انتخابات تحت إشراف دولي، ثم قال "العرب السنة هم الأغلبية، وبالتالي لن ينجح بشار، وعندها لن نقف في وجه إزاحته". وأكدت هذا الطرح محاولة رئيس الوفد الروسي إلى أستانة 1، ليفرنتيف، تقديم مسودة للدستور إلى وفد القوى العسكرية الثورية، وهو المقترح الذي واجه رفضاً تركياً.
السعي الروسي في مسألة الدستور مستمد من استراتيجية الالتفاف على مسألة رحيل الأسد في بداية المرحلة الانتقالية، بجعل الدستور الجديد ناظما لانطلاق المرحلة الانتقالية وآليات الحكم، وبالتالي جعل الحكم، من حيث التوزيع والشكل، محكوما بالمرجعية الدستورية، وليس بصيغة اتفاق الانتقال السياسي الذي يراد من مفاوضات جنيف الوصول إليه.
من جهة أخرى، سيتحقق الانخراط في مسألة الدستور قبل الانتهاء من البت بقضية الانتقال السياسي (سلة الحكم) تفتيتاً كلياً، ليس فقط للمعارضة السورية المتهمة بنقص التمثيل، بل
ويبدو أن سحب دي ميستورا "آلية التشاور" الخاصة بالدستور لم يكن بسبب اعتراضات المعارضة وحسب، وإنما أيضا بسبب اعتراضات دولية، خصوصاً من واشنطن التي تتابع المفاوضات بطريقة غير مباشرة. ذلك أن التركيز على الدستور، والحديث عن مؤتمر للحوار الوطني، يمثلان إرادة روسية خالصة في الانقلاب على التراتبية المذكورة في الفقرة الرابعة من قرار مجلس الأمن 2254.
يترتب على وفد الهيئة العليا للمفاوضات التمسك الكامل بمناقشة السلال بالتوازي، انطلاقا من سلة الحكم بشكل رئيسي، ورفض المضي في بحث تفاصيل سلة واحدة بمعزل عن الأخرى، استناداً إلى التراتبية التي حددتها الفقرة الرابعة من القرار 2254، وهو ما يفرض البدء في تطبيق السلة الأولى (الحكم) على أرض الواقع، وهو ما أكده دي ميستورا لوفد المعارضة في "جنيف 5".
ولم تكن مصادفةً وضع أولوية الحكم في الجدول الزمني، إذ لا يُعقل وضع الدستور أو قانون الانتخابات قبيل البدء في تنفيذ المرحلة الانتقالية.
كيف... أيها العالم الأحمق؟
لا يزال التعنت سمة تعاطي نظام الأسد مع مسار جنيف، انطلاقا من رفضه القاطع المضي في أي حل يجرده من السلطة أو حتى يقلص سلطاته، مستنداً في ذلك إلى نفوذ روسي إيراني في مواجهة مواقف متراجعة لحلفاء الثورة السورية، وهو ما يجعل الوصول إلى حل سياسي حقيقي أمراً مستبعداً في المدى المنظور. وليس على المعارضة، في ظل هذا الاستعصاء، أن تستجيب لدعوات إبداء المرونة والواقعية السياسية، وتقديم تنازلات تسهم في دفع العملية السياسية في جنيف، بل عليها أن تجدّد التزامها الكامل بتطلعات الشعب السوري، ودعواته التي كان أكثرها وضوحاً دعوة المتظاهرين في معرّة النعمان قبل أيام، حين رفع المتظاهرون لافتة تسأل: كيف يبقى رئيساً من قتل مليوناً من الشعب.. أيها العالم الأحمق؟
فعلاً.. كيف أيها العالم الأحمق؟
مقالات أخرى
31 ديسمبر 2017
10 نوفمبر 2017
08 أكتوبر 2017