الثورة السورية بعيون صادق العظم

17 مارس 2017
+ الخط -
"الثورة السورية هي ثورة، سواء تأسلمت أو تعلمنت"، هي كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي لكل البديهيات القديمة... وأنا العبد الفقير لله وحرية الإنسان سأبقى معها... حتى لو التهمتني، حتى لو كنت من ضحاياها.. حتى لو دفعت الثمن غالياً جداً لا يقل عن حياتي.. سأبقى منحازاً لها، ما دمت قادراً على التنفس". كلمات قالها الراحل صادق جلال العظم، بعد مرور حوالي عامين على اندلاع الثورة السورية، وسرّ بها أيما سرور، ولأسباب مختلفة، ثلاث فئات من السوريين. الأولى، الذين انخرطوا في الثورة باكراً، وقدموا ضريبة ذلك. الذين يصرون على أن شيئاً لم يتغير، وأن الثورة اليوم هي كما كانت عليه بالأمس، باستثناء نمو ظواهر سلبية يمكن وصفها بالطحالب العابرة التي ستتخلص منها شجرة الثورة، طال الزمن أم قصر. الثانية، فئة الإسلاميين الذين رأوا في كلمات العظم شهادة من أحد رموز العلمانية في سورية تخلي مسؤوليتهم عن المآلات السلبية للثورة. فما يقال عن دورهم الكارثي في حرف مسارها عن أهدافها نتيجة قيادتهم لها، ودفعهم باتجاه أسلمتها (الشعارات التي رفعوها وتسمية أيام الجمع والكتائب،...إلخ) ليس صحيحاً، ودليلهم في ذلك ما قاله "شيخ" العلمانيين. الثالثة، فئة المبكّرين في تنصلهم من الثورة، ولا سيما منهم بعض العلمانيين، ومن لف لفهم، من أتباع المدرسة الأدونيسية. فهؤلاء رفضوا من الأساس إطلاق اسم الثورة على الحراك الذي انطلق في سورية أواسط مارس/ آذار2011، بذريعة خروج المظاهرات من المساجد ورفع شعارات دينية. أما أكثرهم مرونة، فقد اعتبر أن الثورة كفّت عن أن تكون ثورة بعد أشهر قليلة من اندلاعها. لكن انخراط علمانيين ويساريين كثيرين في الثورة، ومن بينهم مفكرون وكتاب وصحافيون وفنانون ورسامون معروفون، أوقع الأدونيسيين في مأزق، وأظهرهم فئة محدودة تنشز خارج السرب. ولم يكن أمامهم للخروج من مأزقهم هذا إلا التشكيك بعلمانية العلمانيين المنخرطين في الثورة والمدافعين عنها، بل وتطييفهم إن لزم الأمر. عدّتهم في ذلك اصطياد موقف خاطئ من هنا، وتصريح ملتبس من هناك. في هذا السياق، جاءت كلمات العظم لتقدم لهم، كما يظنون، خدمة جليلة. فها هو العظم، العلماني العتيد، المدافع العنيد عن الثورة، يكشف عن دوافعه الطائفية في دعم الثورة السورية، حاله في ذلك حال غيره من مؤيدي الثورة السورية.
لست في وارد الدفاع عن صادق جلال العظم الذي أختلف مع وجهة نظره حول المسألة 
الطائفية في سورية، لكنني أزعم أن ما أراد قوله، في كلماته آنفة الذكر، أعمق مما فهمه بعضهم، سواء من المتحمسين لكلامه أو منتقديه. ففي مواجهة المشككين بثورة الشعب السوري، أراد العظم أن يقول، إن كان هناك من شروط لإطلاق تسمية الثورة على ما قام به الشعب السوري، فإن هذه الشروط محققة، بل وأكثر من المطلوب. فإذا كان خروج الملايين ضد نظامهم الديكتاتوري الذي حكمهم بالحديد والنار عقوداً، والمطالبة بالحرية والكرامة ومحاكمة المجرمين والفاسدين، وتقديم مئات آلاف الشهداء والمعتقلين من أجل ذلك، والانشقاقات الأفقية والعمودية عن النظام، ليس ثورة، فماذا تكون الثورة إذن؟ لكن موقف العظم لا يعني، كما قد يظن بعضهم، أنه لم يعر اهتماماً لسياسات أسلمتها. في مقابلة أجراها معه موقع الجمهورية في 10/1/2013 وفي معرض رده على سؤال يتعلق بخشيته من الإسلام السياسي بعد سقوط نظام الأسد، أجاب العظم "نعم، أخشى الإسلام السياسي بعد سقوط النظام وقبله. أخشاه لأسباب أبعد من الوجه الإسلامي الزائد الذي أخذت تظهر به الثورة السورية أمام نفسها، وأمام العالم كله. أخشى ذلك، لأن في ثقافتنا ومجتمعاتنا ما يكفي من العناصر السلطوية والتسلطية والسلبطجية والأبوية والأبوية المحدثة والثأرية، بما يجعل إعادة إنتاج نظام الاستبداد مجدّداً، بصورة أو أخرى، احتمالاً وارداً ومخيفاً، مما يتطلب الحذر الشديد واليقظة التامة".
ربما يقول قائل إن أسلمة الثورة التي أخذت منحى تصاعديا، أوصلها إلى ما وصلت إليه من نتائج كارثية، يجعل كلام العظم "الثورة السورية هي ثورة، سواء تأسلمت أو تعلمنت" مثالياً 
وأيديولوجيا بامتياز، لاسيما أن عديدين ممن وقفوا مع الثورة، بل وكانوا منخرطين فاعلين فيها باتوا، منذ سنوات، يستخدمون مصطلح الحرب، بدلاً من الثورة. لكن، من قال إن العظم نفسه لم يستخدم مصطلح الحرب في توصيف الحالة السورية؟ في مقاله "سوريا في ثورة" في مجلة الجديد (العدد 8، سبتمبر/ أيلول 2015)، وفي موقع رابطة الكتاب السوريين (7 ديسمبر/ كانون الأول 2016) يقول العظم "هناك ثلاثة عناصر على الأقل، إضافة إلى قمع النظام، ساعدت في تحويل التظاهرات السلمية إلى حرب". لكنه يتابع "في سورية، هناك جهتان متحاربتان: النظام، والدولة، والجيش والحزب الحاكم في طرف، والانتفاضة الشعبية في طرف آخر"، لينهي مقاله "فيما أكتب الآن، لا أحد يدّعي معرفة كيف تسير الأمور في سوريا، أو كيف سينتهي هذا الصراع الدموي. مع ذلك، أنا متأكد أن الأسد وسلالته لن تحكم سوريا مرة أخرى".
في الوقت الذي يبدو لقارئ المقال أن ثمة تناقضا في توصيف الحالة السورية، مرة بالحرب ومرة أخرى بالثورة، فإن واقع الحال بالنسبة للعظم ليس كذلك، فهو إذ يشير إلى تحولات الثورة السورية، وصولاً إلى تعسكرها، محللاً أسباب ذلك، وإذ لم ينف أن حرباً تدور اليوم في سورية، إلا أنه لم يجد في ذلك ما يتناقض مع استمرار استخدامه مصطلح الثورة. وكأنه يريد القول إن العسكرة أو الحرب ما هي إلا شكل من أشكال الثورة السورية التي يشبهها العظم، في المقال نفسه، بالانتفاضة، أو الثورة المسلحة التي حصلت في المجر ضد النظام الستاليني عام 1956. لكن، حتى لو صح وجود التناقض آنف الذكر، فمن الممكن تفسيره بإرادة العظم، ورغبته في التأكيد على روح (وجوهر) ما قام به السوريون من ثورةٍ ضد نظام ديكتاتوري، تثبت ممارساته، كل يوم، أن ضرورة اقتلاعة كانت واجبة، ليس ابتداءً من أواسط مارس/ آذار 2011، بل قبل ذلك بعقود.