الثورات العربية في مواجهة فيسبوك

08 مارس 2017
+ الخط -
أيام قليلة فصلت بين اشتعال فتيل الثورات العربية وبين مئات المقالات والمقابلات التلفزيونية التي أشادت بدور مواقع التواصل الاجتماعي في نجاح هذه الثورات. ولعله من المفيد في العام السادس من تاريخ موجات الاحتجاج العربي أن نراجع محاولات تأطير هذه الاحتجاجات في السياقين المحلي والدولي، وقراءة جذورها بدقة تسمح لنا بتفكيك الخطابات التي انطلقت مع أول شرارة لها.

تُعد فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بداية حقبة المناداة بالاستقلال السياسي للدول العربية عن الدول الاستعمارية العظمى التي استهدفت دول الجنوب العالمي لضمها لنطاق هيمنتها العسكرية، كمصادر للمواد الأولية المستخدمة في الصناعات قبيل الثورة الصناعية في أوروبا. وبالفعل، في النصف الثاني من القرن العشرين استطاعت أغلب البلدان العربية إعلان استقلالها عن الاستعمار البريطاني والفرنسي. ومع سقوط النظام الملكي في مصر 1952 بدأت نزعات القومية العربية في الظهور، خاصة بعد حربي 1967 التي انتهت بهزيمة الجيش المصري أمام نظيره الإسرائيلي و1973 التي انتصر فيها الجيش المصري بالتعاون مع الجيش السوري.


هذه الأجواء من الحروب المتتالية في المنطقة أنهكت الشعوب العربية، وامتدت النزعات القومية للاقتصاد والاشتراكية لتندمج مع حلفاء الاتحاد السوفييتي، وتنطلق "الناصرية"، نسبة إلى جمال عبد الناصر، كاتجاه اشتراكي يساهم في تأميم الشركات الأجنبية لتحسين الاقتصاد المحلي، كما أعلنت "أحزاب البعث العربي الاشتراكي" عن نفسها في العراق وسورية. 
مجانية التعليم، وتحسين نظم الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية، كما اتساع سلطات الدولة ومركزيتها السياسية كانت من منتوجات الناصرية في مصر، على سبيل المثال. الأمر الذي سرعان ما اختلف بصعود الرئيس المصري، محمد أنور السادات، للحكم وتطبيقه لسياسات الانفتاح الاقتصادي.

في بحث بعنوان: "الإصلاحات النيوليبرالية في مصر وأخلاقيات اقتصاد الخبز" تُشير، سابين فريركس، أستاذة الاقتصاد في جامعة فيينا، إلى أن سياسات الانفتاح الاقتصادي اعتمدت بشكل أساسي على توقيع "معاهدة السلام" بين مصر وإسرائيل في أواخر السبعينيات، والتي ساهمت في إعادة تفعيل دور مصر في السوق التجارية العالمية، وبناء تحالفات دولية جديدة لمصر، يسَّرت تلقي القروض من المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

امتدَّت شروط هذه السياسات لتشمل بداية بيع القطاع العام وخصخصة الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة وغيرها، وتقديم تسهيلات لجذب الاستثمارات الأجنبية. ما أنتج نقصاً حاداً في الوظائف الحكومية وتدفق العمالة من الوظائف الثابتة والمؤمنة اجتماعيًا في القطاع العام للوظائف الاضطرارية ذات الأجور المنخفضة في القطاع الخاص. ومع شروط قرض صندوق النقد الدولي بزيادة الأسعار في عام 1977، لاقت حكومة السادات أحداث العنف موسّعة عُرفت بـ"انتفاضة الخبز"، والتي واجهتها الحكومة بعنف أسفر عن 70 قتيلا واعتقالات عشوائية. وامتدت هذه الاحتجاجات لتشمل دول المغرب العربي والأردن في الثمانينيات، ويليها بداية للحركات المدنية والمنظمات غير الحكومية في التسعينيات.

وازدادت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية سوءًا باستمرار سياسات الخصخصة والنيوليبرالية تحت حكم مبارك، مع تراكم إجمالي الدين الخارجي وإعلان صندوق النقد الدولي عن سياسات التسهيلات، والتي تعتبر آلية لزيادة الدَين، وضمان اعتمادية الدول المديونة عليه. وبالتوازي مع توحُش دولة مبارك الأمنية، انفجرت الانتفاضات العمالية في المحلة الكبرى عامي 2006 و2008 لتشكل نواة لثورة يناير 2011. 
لذلك؛ لا تعتبر الثورات العربية مجرد نتاج للعولمة الاقتصادية وكأن المنطقة العربية رد فعل خالٍ تمامًا من أي فاعلية حقيقية، وإنما هي جزء فاعل فيها باعتبارها تفاعلًا حيًا بين مُسبباتها ومؤثراتها.

ساهمت التكنولوجيا في سرعة انتشار المعلومات وخلق مساحة إعلامية حرة غير مُهيمن عليها دولانيًا، ولكنها لم تكن السبب الرئيسي في الثورات العربية. فإن كانت مواقع التواصل الاجتماعي قناة تواصل فعّالة فهذا يرجع إلى مستخدميها في المقام الأول. إلى من دعوا للتظاهر وإلى من خاطروا بالتواجد في الشوارع حتى أثناء انقطاع خدمة الإنترنت. هؤلاء الذين أضفوا شيئًا من الجديّة على أداة ترفيه، فذاع صيتها وقفز عدد مستخدميها حول العالم في أشهر قليلة. أما الترويج لإلصاق اسم موقع "فيسبوك" بالاحتجاجات العربية فهو اختصار غير مقبول لقرابة ثلاثة عقود من تردي أحوال الشعوب العربية، واستحقاق غير منطقي للقوى المُنتجة للموقع في السعي لتكوين حركات مدنية عربية، هذه القوى التي ساهمت في قهر هذه الشعوب بالتعامي المقصود عن انتهاكات الأنظمة العربية مقابل استمرار مصالحها الاقتصادية في المنطقة، وهي أيضًا التي لا تتوانى لحظة في التملص من نتائج هذه الاحتجاجات كانطلاق التنظيمات المسلحة والحروب في سورية واليمن وليبيا إلى أننا شعوب "بربرية" لا نُجيد فنون الديمقراطية التي يصدرونها لنا كشعوب متأخرة. كما أنها رؤية قاصرة جدا عن أحداث تاريخية شكلت تغيرات سياسية وديمغرافية مهمة.

B831FE42-EA06-442C-B1AC-D58CDE96BA74
غدير أحمد

ناشطة نسوية مصرية، وباحثة متخصصة في دراسات المرأة النوع والاجتماعي