الثقافة السوريّة في قبضة الأمن

07 يوليو 2015
تجهيزات لإحدى الفعاليات الثقافية في سورية
+ الخط -
خلال عامي 2008 و2009، حاول مدرّس للرياضيات يحبّ الشعر ويكتبه، اسمه "بشار عيسى"، أن يؤسس لمحاولة ثقافية أهلية في مدينة سلمية، مدينة محمد الماغوط وأصلان عبد الكريم، وذلك من خلال صالة لعرض الفنون التشكيلية. وتمكن خلال فترة من إنجاز عدّة نشاطات ثقافية. إلا أن الاستخبارات السورية أغلقت الصالة، وكانت الحجّة غياب الترخيص الإداري. وكان الدرس من هذا الإجراء الأمني، إفشال أي لقاء أو حوار ثقافي قد يكون جسراً لحوارات سياسية محتملة أو حوارات ثقافية جدّية.
هكذا كانت السلطة السورية تتعامل مع مختلف أشكال النشاطات الثقافية التي ترعاها من خلال وزارة الثقافة والمؤسسة العامة للسينما وغيرها من مؤسساتها، عندما كانت في عزّ قوتها وسطوتها. وكان لسان حال السلطة: ازرع وردة هنا، في هذه المساحة الجغرافية الضيّقة، مثل صالة مركز ثقافي، ولكن إياك أن تفكر في إيجاد حديقة، ازرع سنبلة قمح فكرية، ولكن ضعها في أصيص صغير واسقها في بيتك، إياك أن تحاول زراعة حقل كامل من القمح الفكري. إن أردت ذلك، أمامك سجن تدمر أو المزة أو صيدنايا أو النفي.
وفي السبعينيات من القرن المنصرم، كان يدير ملحق جريدة الثورة الثقافي، الشاعر السوري محمّد عمران، وخلال تلك الفترة كان الملحق مكاناً لسجالات فكرية وثقافية بين شخصيات أدبية وفكرية. في تلك الأيام، كان حافظ الأسد يرتب بيته الأمني، ولم يكن مشغولاً كثيراً بهؤلاء، أو لعلّه كان ينظر إليهم من النافذة نفسها التي جعلته يؤسّس جبهته الوطنية التقدمية.
مراكز ثقافية كثيرة بنتها سلطة بيت الأسد، حدودها الثقافية كانت تنتهي مع نهاية المحاضرة أو نهاية الأمسية الشعرية أو نهاية المهرجان، مع أن معظم هذه النشاطات تحصل على الموافقات الأمنية المسبقة. وكان يجب أن ينهي المحاضر محاضرته ويذهب لبيته، وإن ناقش الحضور معه بعض الأفكار، فإن مدير المركز كان، بحسّه الأمني، يرصد مدى خطورة الأسئلة وأسماء أصحابها.
وكانت حتى محاضرات طيب تيزيني في دمشق، ذات العناوين الخطرة: "الدولة الأمنية مثلاً"، فرصة ليعرف الأمن مدى الاختناق العام في الحياة السورية الثقافية. ومع نهاية الحوار "المضبوط جداً"، كان تيزيني يعود إلى حمص حيث يقيم، بينما يسأل عناصر الأمن عن أسماء الأشخاص الذين حاوروه.
ويركض مديرو المراكز الثقافية من أجل إملاء جداولهم الثقافية بالنشاطات، لكنهم كانوا دائماً يعرفون مسبّقاً جلّ ما سيتفوّه به المحاضرون. ومع ذلك، كانت عناصر الأمن تتابع كلّ نشاط ثقافي تابع لوزارة الثقافة.

اقرأ أيضاً: حساسيّات جديدة في الشعر المغربي المعاصر

وحتى عندما عرضت مجموعة من الممثلين مسرحية سياسية ناقدة تحمل عنوان "سُمح في سورية"، في عهد الابن بشار الأسد، على أحد المسارح الخاصة في دمشق، كانت عيون الأمن غير راضية على "الذي" سمح لهؤلاء أن يقتربوا من نقد الأمن والجيش.
كانت كلّ تلك النشاطات الثقافية، تُدار بعين أمنية تجعلها تنتهي تماماً، وتموت بعد إقامتها. رغم أن من أولى مهمّات الثقافة بالمبدأ، فتح أبواب الأمل أمام عموم الناس، والفكرة بحد ذاتها، بذرة لا بدّ أن تثمر اجتماعياً. ولمنع ذلك، كانت النشاطات الثقافية الرسمية والأهلية محصورة في مكان محدّد وزمان محدّد أيضًا. ما كان ممنوعًا بالتحديد، هو التراكم الثقافي، إذ من شأنه أن يؤدّي إلى سواقي وينابيع سياسية جديدة، لذا كان المطلوب تجميد اللحظة الثقافية وتجفيفها من أي بارقة أمل عامّة.
وانعكس هذا الواقع على الصحافة، إذ لم تنشر لسنوات عدّة مواد سجالية في الصحافة السورية. وكانت الصفحات الثقافية تنشر المقالات والزوايا والآراء، التي لا أحد يرد عليها أو يناقشها. وقد قال لي مرّة رئيس دائرة ثقافية في صحيفة رسمية: "اكتب في زاويتك أي شيء بلا معنى، وسوف أنشرها فوراً".
أمّا مهرجان دمشق السينمائي الذي كان يعقد كل عامين، فقد كان يرعاه مدير المؤسسة العامّة للسينما محمّد الأحمد بحسّ سلطوي هائل، بحيث يغدو نقد المهرجان أحد الخطوط الحمر، لذا كان الأحمد يزور رؤساء التحرير ومديري المؤسسات الإعلامية، من أجل ضمان عدم النقد.
ولعلّ ممارسات مماثلة، تفسّر تصريحات بعض المسؤولين في المواقع الثقافية، فقد قال مرّة الكاتب وعضو المكتب التنفيذي في اتحاد الكتّاب العرب عبد الله أبو هيف، ضمن ندوة عن الرقابة الفكرية: "نحن مرتاحون من الشغب، ننشر كتباً في اتحاد الكتّاب لا تثير أحداً ولا تزعج أحداً".
هل حدث ذلك عبر تخطيط مسبّق؟ الظن لا، إذ لم يكن هؤلاء المسؤولون يملكون ذكاء معرفة الغد، وما سيحدّث به، لكنهم كانوا يعرفون كيف يقمعون كلّ شيء وأي شيء ثقافي حقيقي. والدليل أنهم حتّى هذه اللحظة، يُخضعون تعيين مديري المراكز الثقافية الباقية تحت سيطرتهم، للاعتبارات الأمنية المحضة. لم يتغيّر شيء، وما زال رائجًا شرط ترشيح كلّ مدير مركز ثقافي من قبل شعب حزب البعث الحاكم.
يقول الكاتب السوري سامي الجندي في روايته "سليمان": "لا يهم السلطة إلا دوامها، بقاءها". ومن هنا، فإن كلّ شيء لا يعكّر صفو سواقي الاستبداد، والبقاء في السلطة "مقدور عليه".
ففي هذه الأيام تستمر النشاطات الثقافية التي تقوم بها وزارة الثقافة، مع أصوات البراميل التي يرميها النظام على كلّ المناطق الثائرة. نشاطات ثقافية تقول أحياناً لا للحرب، مع نفي تامّ لكلمتي: شعب وثورة، وبالطبع لا يمكنها إطلاقاً أن تفكّر بتسمية القاتل والقتلة.
(كاتب سوري)
المساهمون