الثعلب الذي أصبح ذئباً

14 اغسطس 2014
+ الخط -

 بدا نوري المالكي، في مستهل عهده، "عربياً"، كيف لا، وهو القادم من دمشق "قلب العروبة النابض". بدا أليف المظهر. يمكن تخيله، بسهولة، موظفاً عمومياً بسيطاً حاملاً بطيخةً، وهو عائد إلى البيت (لو كان مصرياً، بالطبع)، أو خارجاً من الجامع وبيده مسبحة. بدا أقلّ طائفية من آخرين قادمين من موقعة "النهروان" مباشرة. بدا أميركيّاً، يمكن لواشنطن أن تعتمده وتعوّل عليه، وبالمقدار نفسه بدا إيرانيّاً، إذ بوسع طهران أن ترى فيه رجلها في بغداد.
وماذا بدا بعد؟
بدا معادياً، حتى العظم، لبشار الأسد، حتى إنه طلب من مجلس الأمن، ذات يوم دموي في بغداد، أن يدرج اسم الأسد الصغير في سجل الجرائم الدولية. أراد له محكمة دولية على غرار محكمة مقتل الحريري. قال إنه لن يقبل بأقل من ذلك، بعدما تمادى بشار في إرسال فرق الانتحاريين إلى بغداد الذين لم يسمّوا بعد: داعش! ولكن، بعدما تمكَّن بائع السجاد في أسواق دمشق الشعبية (ثمة من يقول إنه كان يبيع المسابح) من كرسِّيه في رئاسة الوزراء، حتى راحت طباع بائع السجاد (أو المسابح) تتضح. فبدا رجل مساومةٍ من الطراز الأول. يرى الفرص وهي تتكوّن في الجوّ. يعرف متى تنضج، ثم يقطفها، تاركا حلفاءه الخصوم وراءه، يحارون كيف يصنّفون أديب المالكي، (اسمه الحركي أيام النضال ضد صدام حسين) وبعقلية بائع السجاد (أو المسابح) تماهى بطباع الثعلب، وراحا يتداخلان: المساومة. المراوغة. التضليل. الإيحاء بأن الهدف في الشرق في حين يكون في الغرب. تعجَّب كثيرون، خصوصاً بعدما فاز بالولاية الثانية، كيف أمكن لرجلٍ ليس لديه خلفية حكومية، ولم يكن شخصية سياسية بارزة في المعارضة الشيعية العراقية، أن يجعل من نفسه ضرورةً لا بدَّ منها للطرفين الحاكمين في العراق: واشنطن وطهران. وكيف أمكنه أن يصير نقطة تقاطع مصالح، لازمة، للطرفين. فأمسى هو، لا صدام حسين، الرجل الضرورة!
 ولعلها من المرات النادرة التي يغدو فيها رجل سياسة ضرورة لأطرافٍ متباعدة، إن لم تكن متصارعة. فالأميركيون يريدونه كي يهربوا من العراق، تاركين الجمل بما حمل، والإيرانيون يريدونه كي يبسطوا يدهم على القرار العراقي، و"البيت الشيعي" مضطر له، لأنه لا يملك شخصيةً يمكن الاتفاق عليها، وربما بدا خياراً معقولاً للسنة الذين أوهمهم بحسن جواره للعروبة، أما الأكراد فمشى معهم خطواتٍ في اتجاه مطالبهم اللامركزية. 
لكنَّ الثعلب انقلب، بعدما دانت له أطرافٌ لم تدن لأحد من قبل، إلى ذئبٍ فراح يفتكُ، بكل من تسوّل له نفسه، الاقتراب من مقر رئاسة الوزراء في المنطقة الخضراء، بل بكل من يحتج على تمركز السلطات في يده: سياسةً وأمناً وعسكراً ومالاً ونفطاً وإعلاماً ومافيات، ومليشيات تسلَّط على الحلفاء قبل الأعداء، إن لزم الأمر. وقد لزم الأمر، وقامت هذه المليشيات بأعمال قتل وسطو وترويع وتفجير وخلط للأوراق في الوسطين العربيين: الشيعي والسني.
نسي المالكي، وهو يحوّل نفسه إلى ديكتاتور ركيك، أن لا شيء يبقى على حاله. أنَّ يوماً سيأتي لن يكون فيه موضع "ضرورة" للاعبين الأساسين في المعادلة العراقية، وأنَّ رصيده الوحيد الذي يمكن أن يواجه به أية قوة خارجية هو إنجازاته الداخلية. فأية انجازات حققها المالكي: إنفاق مليارات الدولارات على جيش طائفي خلع ثيابه في أول مواجهة ضد مليشيا "داعش". بلد على شفير التفكك الجغرافي. جراح طائفية وإثنية غائرة في جسد بلاده، فقر وجوع في أغنى بلد عربي، الجوع الذي قصده السياب: أي الحرفي.
***
وأنهي، أخيراً، بهذه الطرفة التي تتداولها مواقع عراقية وعربية، معطوفةً على المالكي وطبع الثعلب فيه:
يحكى أنَّ ثعلباً رأى غراباً فوق شجرةٍ، وفي فمه قطعة جبن، فقال له: ما أجمل صوتك أيها الغراب العزيز، لماذا لا تغرّد لنا؟ فوضع الغراب قطعة الجبن تحت جناحه، وقال: تظنني الغراب الذي في كتاب القراءة؟ فقال الثعلب: كلا، وأنا، أيضاً، لست، الثعلب الذي في كتاب القراءة. فقال الغراب: من أنت إذن؟ فردَّ: أنا ثعلبٌ يحبُّ الغناء والطرب ومن متابعي "أرب آيدول"! دعنا نغني ونزجي الوقت. فغنّى الغراب، ورقص الثعلب على غنائه، وصفَّق له، فاشتدّت حماسة الغراب وشاشَ، فقال له الثعلب: لماذا لا تصفّق لرقصي، ألا يعجبك؟ فقال الغراب: بلى، ومن فوره راح يصفَّق، فوقعت قطعة الجبن، والتقطها الثعلب الذي قال للغراب ضاحكاً:
أنا هو الثعلب الذي في كتاب القراءة، لكن المنهاج تغيّر!

 

 

 

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن