سألني الأسبوع الماضي مذيع تلفزيوني في لندن: لماذا يضيّع العرب مستقبلهم ولديهم هذه الثروات المادية الهائلة؟
قلت له إن الثراء ليس في النفط والمعادن، كما يُفهم في عالمنا، ولكن الثراء الحقيقي هو في رأس المال البشري، إنه في الإنسان يا عزيزي، الذي لا يساوي شيئاً في عالمنا العربي.
مأساة الشعوب العربية أنها تركت مجموعة من الطغاة يتحكمون بأمرها، فقتلت الإنسان وسلبته عقله وتفكيره وحولته إلى مجرد "روبوت" مبرمج وفقاً لهوى الدكتاتور الذي يحكم.
وبالتالي فقدنا الثروة الحقيقية، ألا وهي الثروة البشرية التي خلقت هذا الكم الهائل من الثراء في اليابان وأوروبا وأميركا. وبالتالي ظلت دول فقيرة رغم ما تحمله أرضها من كنوز وثروات، فيما وظفت دول العالم الأخرى عقل مواطنها ففاضت عليها الثروات.
فالعديد من الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها اليابان وألمانيا، لا تتوفر بها ثروات مادية تذكر، بل أنها تستورد كل المواد الخام من الخارج، ثم تُدخل على هذه المواد منتجات العقل من تقنية وأفكار لتحولها إلى منتجات صناعية تباع بعشرات أضعاف أثمانها في الأسواق العالمية.
هكذا صنعت هذه الدول ثرواتها التي باتت مفخرة للعالم أجمع في كل المجالات.
أين نحن من هذه الدول التي تحترم الإنسان وتوقر مبدعيها وعلمائها، منا نحن الذين نهين المفكرين ونجبرهم على الركوع أمام موظفي الأمن، وإن لم يفعلوا أدخلوا السجون.
ولنأخذ مثلاً بسيطاً، ألا وهو جزيرة سنغافورة التي توفرت لي الفرصة لزيارتها لمدة 9 أيام قبل ثلاثة أعوام، بدعوة من البنك المركزي السنغافوري ووقفت على أسباب تطورها ونهضتها.
فوجدت الإنسان هو وراء هذا التطور.
وبمقارنة جزيرة سنغافورة الصغيرة التي لا تتعدى مساحتها 699 كيلومتراً مربعاً، أي أقل من سدس مساحة مدينة لندن ولا يتعدى عدد سكانها 4.7 ملايين نسمة، بدولة عربية مثل مصر.
نجد الفارق الشاسع في التقدم الهائل الذي حققته هذه الجزيرة خلال أربعة عقود فقط من الزمان لتتحول من جزيرة مهملة في أطراف ماليزيا إلى دولة متقدمة بين دول مجموعة التنمية والتعاون الاقتصادي، وتحتل مركزاً متقدماً بين الاقتصادات الصناعية في العالم.
وفيما يصل الناتج المحلي الإجمالي لمصر التي يقطنها حوالي 90 مليون نسمة حوالى 270 مليار دولار، يصل دخل سنغافورة حوالى 300 مليار دولار. وفيما يتوفر في مصر نهر النيل العظيم، تعتمد سنغافورة على مياه الأمطار ولا تجد المساحة الكافية في الجزيرة حتى لتخزين المياه.
لقد قابلت سنغافورة كل التحديات الطبيعية بعقل الإنسان الحر المتفتح، فيما قابلت مصر كل تحدياتها بالشرطة والجيش وضرب وتعذيب مواطنيها. وكانت النتيجة واضحة للعيان. بلد متقدم بثروته البشرية وآخر متأخر رغم ما يملكه من ثروات.
فما إن تهبط بك الطائرة في مطار سنغافورة الدولي حتى تشعر بأنك في بلد من طراز مختلف، منتهى النظافة والدقة والنظام والسرعة في تنفيذ إجراءات الفيزا والدخول.
وحينما تأخذ السيارة من المطار إلى وسط المدينة التي تشكل كل سنغافورة، تبحر بك السيارة تحت ظلال الأشجار الوارفة التي تغطي كل الطريق وتظن أنك تسير وسط غابة لولا وجود البنايات العالية هنا وهناك.
وفي التجوال داخل سنغافورة تكتشف أن البلاد كلها عبارة عن غابة مورقة زرعت بينها البنايات.
تعتقد في البداية أن هذه البلاد غنية بالثروات الطبيعية مثلما هو الحال في الخليج العربي الذي يختزن النفط والغاز الطبيعي وبعض المعادن النادرة الثمينة، ولكني أصبت بالدهشة حينما أخبرتني السيدة جاكلين نوغا أونغ، التي تعمل في سلطة النقد السنغافورية "البنك المركزي" والتي نظمت لنا الزيارة، أن سنغافورة لا توجد بها موارد طبيعية تذكر.
ورغم وفرة الأمطار فإن المساحة الضيقة لا تسمح بتخزين الماء الكافي للسكان، وبالتالي فإنها تلجأ إلى تحلية مياه البحر لتغطية النقص، مثلما هو الحال في السعودية وبعض دول الخليج.
اقرأ أيضا: العرب فقراء بالنفط ومن دونه ... والسبب الصراعات والسلاح