للمرة الثالثة على التوالي، يفشل المواطن العراقي ليث قدوري الدليمي، في بيع منزله الواقع في حي الجامعة غرب العاصمة العراقية، بالرغم من السعر المخفض والمغري الذي عرضه على المشتري قياساً لقيمة المنزل الكبيرة ومنطقته الجغرافية المميزة، ولكن عبارة (مطلوب عشائرياً) المخطوطة باللون الأحمر على الجدار الخارجي، كانت كفيلة بهروب المشتري المحتمل بشكل فوري، وهو التصرف ذاته الذي قام به اثنان من راغبي الشراء قبله.
وتبدو خيبة الأمل واضحة في وجه الدليمي بعد فراغه من محادثة سمسار العقارات الذي نقل له الأخبار السيئة بواسطة الهاتف إذ يقيم صاحب المنزل في مدينة أربيل شمال العراق، بعد تهديده من قبل مجموعة قبلية بالتصفية الجسدية على خلفية زعمهم بأن ولده شارك في قتل أحد أبنائهم في موجة العنف التي اجتاحت العراق عقب الغزو الأميركي، وسجلت أعلى معدلاتها بين عامي 2006 و2007.
ثأر وهمي
يتحدث الدليمي لـ"العربي الجديد"، عن بطلان التهمة التي توجه إليهم وعدم منطقيتها، إذ اعتقلت القوات الأميركية ولده من المنزل في عام 2005 وبقي مسجوناً حتى اليوم، في وقت تتم ملاحقتهم قبلياً بسبب جريمة قتل حصلت في عام 2007 وهو الأمر الذي حاول ولعشرات المرات إيصاله إلى شيخ العشيرة المطالب بالثأر، ولكن من دون جدوى بينما أخبرته مصادر أمنية حاول الاستنجاد بها أنهم غير معنيين بمثل هذا النوع من المشاكل.
ومع أن منزله غير القابل للبيع تقدر قيمته بمليار دينار عراقي (أكثر من 800 ألف دولار أميركي) إلا أنه لم يستطع سداد مبلغ 700 دولار بدل الإيجار الشهري للمنزل الذي يسكنه حالياً في منطقة عينكاوا بمدينة أربيل، والتي هرب إليها مع عائلته خوفاً من تهديدات مسلحي القبيلة الذين (بحسب الدليمي) أطلقوا النار بشكل عشوائي فوق المنزل ليثبتوا أن عبارة التهديد التي كتبوها قبل أسبوع من الحادثة أمر جدي يستدعي التحرك قبل فوات الأوان.
في حي الجامعة كذلك، يمتلك ثامر نجم (أبو علاء) مكتبا للوساطة العقارية ويحتفظ داخل سجل العمل الأساسي بقصاصة ورقية تضم عددا من العناوين التفصيلية لعقارات مميزة غير قابلة للبيع، لأن أصحابها مطلوبون في قضايا ثأر قبلي.
يؤكد تاجر العقارات لـ"العربي الجديد"، أن مراجعته لهذه القصاصة يجنبه التعامل مع أصحاب هذه العقارات ويبقيه بعيداً عن تهديدات مسلحين عشائريين مطالبين بالثأر، والذين يعاملون من يسعى لبيع العقار المطلوب بمثل عقوبة صاحبه، وهي عقوبة قد تصل في أحسن الأحوال إلى دفع مبلغ مالي ضخم في حين يكون القتل وارداً بقوة في مثل هذه القضايا، عند رفض الدفع.
ويحذر أبو علاء من "تصرفات متهورة" يقوم بها بعض وسطاء بيع العقارات في سبيل الربح أو تقديم مساعدة لصاحب العقار الممنوع من البيع، مبيناً أن زميلا له يعمل في المجال ذاته قام بمسح عبارة التهديد من على أحد المنازل في منطقة اليرموك غربي بغداد، تمهيداً لزيارة يصطحب فيها أحد الزبائن الراغبين بالشراء، ولكنه خضع بعد أيام من تصرفه هذا، لجلسة "فصل عشائري" تم الحكم عليه خلالها وبحضور شيخ عشيرته بأن يدفع مبلغ 25 مليون دينار عراقي "20 ألف دولار أميركي" ذهب أغلبها للعائلة المطالبة بالثأر، لأنه لم يحترم القوانين العشائرية.
وتتكرر ظاهرة منع بيع العقارات المميزة لأسباب ثأرية وعشائرية في المنطقة الغربية من بغداد، أكثر من باقي أجزاء العاصمة العراقية، وهو ما يبرره الوسطاء العقاريون الذين تواصل معهم معد التحقيق، بوجود المنازل الفارهة والكبيرة والمغرية في مناطق مثل المنصور والداوودي واليرموك والجامعة والخضراء وحي العدل الذي يضم وحده أربعة عقارات ضخمة محجوزة عشائرياً، وتعود لشخصيات بارزة في مجالات سياسية ودينية، إذ يمتلك أحدها طبيب شغل منصب نقيب الأطباء في العراق.
الشرطة ترد
يرفض النقيب مناف الشمري من مديرية العلاقات والإعلام في وزارة الداخلية العراقية أي تلميح لتهاون الأجهزة الأمنية مع المتورطين في أفعال التهديد والابتزاز، ملقياً باللوم على من يخضعون لهذه الأفعال ولا يستنجدون بالأجهزة المختصة التي يؤكد أنها تتعامل بحزم مع مثل هذه التصرفات، وأن هذا الأمر من صلب واجبها.
النقيب الشمري قال لـ"العربي الجديد" إن المشكلة ليست في الأجهزة الأمنية، لأنها لا تستطيع التحرك بدون تلقي شكوى أو تحرير الواقعة رسمياً من قبل المواطن الذي يقع عليه الحيف، مضيفاً أن العديد من المواطنين، وللأسف، باتوا يلجأون إلى اختيار الحلول والتسويات القبلية بدلاً من التوجه إلى مركز الشرطة لتسجيل بلاغ بواقعة التهديد.
ويقر الشمري بوجود جهات عديدة تستفيد من هذه الأوضاع وتعمل على تطويرها لغرض المنافع الشخصية، ولكنه يصر، في الوقت ذاته، على أنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام هذه الأفعال، ويتصرفون بحزم وفق الشكاوى التي تردهم بخصوصها.
إساءة للقبيلة
يوافق الشيخ ظاهر علوان العبودي "زعيم قبلي وعضو مؤسس في مجلس عشائر بغداد" على كلام الضابط الشمري بخصوص الجهات المستفيدة من أعمال التهديد والتي يقول إن مافيات ترتدي زي القبيلة والعشائر تقف وراءها، إذ تدر عليها مبالغ خيالية، وخصوصاً في موضوع إيقاف بيع العقارات المميزة وتخفيض أسعارها تمهيداً لشرائها بأثمان بخسة من قبل مرتبطين بجهة التهديد.
ويستغرب العبودي في تصريح لـ"العربي الجديد"، من قيام أي شخص باتهام آخر بجريمة قتل أو خطف أو غيرها بدون دليل أو بينة أو شهود ليتطور الموضوع إلى تهديد ومنع من بيع العقار، رافضاً تسمية هذه الأفعال بأنها من التصرفات القبلية أو تنتمي إلى المجتمع العشائري ويصف من يقومون بهذه الأفعال بأنهم جهات إجرامية يسعون للربح الحرام من جهة، والإساءة إلى صورة القبيلة من جهة أخرى.
ومع أن العبودي يعمل جاهداً وبمعية عدد من الشيوخ والزعماء في مجلس عشائر بغداد للتصدي لمثل هذه الظواهر ومحاربتها من أجل المحافظة على سمعة القبيلة، ولكنه يرى أن جهودهم لن تكون مجدية تماماً، وأن التحدي الأكبر لهم هو ضعف الدور الحكومي في التصدي لمثل هذه الأفعال ووجود ثروات هائلة يتم تحصيلها من عملية بيع هذه العقارات والأملاك.
7 سنوات سجناً
المحامية المتخصصة في قضايا الجنايات بيداء رجب العكيلي، تؤكد صعوبة العمل في هذه القضايا، لأن صاحب العقار يتخلى عن اتهامه للجهات المسلحة خوفاً على حياته وعائلته، ويلجأ إلى التفاوض معها، وهو ما ينتهي بدفع المبالغ المالية التي يحددونها وفي بعض الأحيان يتنازل لهم عن العقار أو المشروع الذي تمت الكتابة عليه (مطلوب عشائريا، لا يباع ولايشترى، مطلوب دم) مع الحرص على كتابتها باللون الأحمر.
وتؤكد العكيلي أنها لا تترافع في مثل هذه القضايا، لأن الطرف المدّعي لا يستند إلى دليل في اتهامه صاحب المنزل بالتورط في جريمة من أي نوع، وليست هناك تحقيقات رسمية في الموضوع الذي يستند برمته إلى القوة القبلية والعددية لهذا الطرف ومدى النفوذ الذي يمتلكه في وقت تكون الضحية قد تم اختيارها بعناية ومن النوع الذي لا يمتلك امتدادا قبليا أو نفوذا قويا.
وتوضح المحامية العكيلي لـ"العربي الجديد"، أن كتابة عبارات التحذير والوعيد على المنازل يندرج تحت جريمة التهديد التي تتنوع أساليبها وأشكالها، ولكنها تجتمع في غاية "تخويف المجني عليه عبر القيام بعمل خطر يستهدف شخصة أو ماله" وفقا لما عرفها به المشرع القانوني العراقي، ولفتت إلى أن هذا الفعل تنطبق عليه المواد (431 و432) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1970 والتي تعاقب بالسجن 7 أعوام لمن تتم إدانته بهذا الفعل.
وترى العكيلي أن الموضوع يعتمد في نهايته على القدرة المالية لصاحب المنزل الذي قد يغادره خائفاً ويسكن في مكان بعيد، وتقول موضحة "إذا كانت ظروف مالك العقار المالية جيدة، فلن يحتاج إلى بيع العقار ويبقيه على حاله، ولكن في ظل العوز المادي ومصاريف السكن في منزل مستأجر، فلا بد من بيعه، وبسعر قليل جداً، وسيكون الزبون حتماً من جهة التهديد وتتم عملية الشراء وتزال عبارات التهديد ويباع مرة أخرى بسعر عال، ليتم توزيع الغنيمة بين صاحب الفكرة والزعيم القبلي المفترض ومسلحيه".
وفي ظل انعدام الحل لمشكلته وعدم رغبته في العودة مرة أخرى إلى بغداد، فإن ليث قدوري لا يستبعد القيام بتخفيض سعر منزله للمرة الثالثة على أمل ظهور "الزبون المغامر" الذي يعول عليه للخلاص من كابوس منزله الذي أصبح يمتلكه على الورق فقط، ويحرم من دخوله أو التصرف به.