التي أنقذت الغناء

21 اغسطس 2017
+ الخط -

(1)

نهاية المطاف، بعدما أفرغ الروائي الكولومبي غارسيا ماركيز ما بجعبته تقريباً من روايات، كشف: "أنا مدين بجوهر طريقتي في الحياة والتفكير لنساء الأسرة، ونساء الخدمة الكثيرات، اللواتي رعين طفولتي".

قائمة النساء في حياة ماركيز طويلة، طفلات، عمّات، جدّات، أمّ، و"ربّة متوّجة" هي زوجته ميرسيدس، غانياته الجميلات اللاتي لا يُشبهن غانيات كواباطا على أي حال، وليس أخيراً شهرزاد في ألف ليلة وليلة.

من جملة ما يذكره ماركيز عمّن منحوه "نزوة القص المباركة" ألف ليلة وليلة: "لولا ألف ليلة وليلة لما كنت كتبت". كان يُرددّ. كان الكتاب أول شيء يقرأه حين وجده بلا غلاف في خزانة داخل مستودع البيت الكبير.

(2)

يُقال إن ألف ليلة وليلة، مجهول المؤلف، صيغ جزءٌ منه في العصر العباسيّ، يقال أيضاً، إن جمهرات الورّاقين الذين أرَّقوا ليل بغداد بالقصص، جزء ممّن أضاف فيه من القصص. في ذاك العصر انتشر اثنان؛ حكايات السمر على طريقة الليالي، والغناء. وأغلب من غنّى في بلاط الأمراء، والبيوت، نسوةٌ بحناجر من ذهب، غير أنَّ الكتاب الذي أحصى الغناء وطرقه، الأغاني لأبي الفرج الأصفهانيّ، لم يذكر غير القليل منهنّ، في حين فصّل الكثير من المغنين الرجال، والباقي كنَّ سيدات الغناء لكن بلا أسماء.

(3)

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أبي جعفر القُرشيّ عن المُحرِزيّ قال: كانت جميلة أعلم خلق الله بالغناء؛ وكان مَعبدُ يقول: أصلُ الغناء جميلة وفرعهُ نحن، ولولا جميلة لم نكن مُغنيّن.


(4)

حكاية من الأغاني: "لمّا قدِمَ عُثمان بن حيّان المُرّيّ المدينةَ والياً عليها، قال له قومٌ من وجوه الناس: إنَّك قد وَليتَ على كثرة من الفساد؛ فإن كنتَ تُريد أن تُصلح فطهّرها من الغناء والزِّنا. فصاحَ في ذلك وأجَلَّ أهلها ثلاثاً يخرجون فيها من المدينة، وكان ابن أبي عتيق غائباً، وكان من أهل الفضل والعفاف والصلاح. فلّما كان آخرُ ليلة من الأجل قدمَ فقال: لا أدخل منزلي حتّى أدخل على سلّامة القسّ (وكانت مُغنيّة أخذت الغناء عن جميلة) فدخل عليها فقال: ما دخلتُ منزلي حتّى جئتكم أسلّم عليكم. قالوا: ما أغفلكَ عن أمرنا وأخبروه الخبر. فقال: اصبروا عليّ الليلة. فقالوا نخاف ألّا يُمكنكَ شيء وننكص. قال: إن خفتم شيئاً فاخرجوا في السَّحر. ثم خرجَ فاستأذن على عثمان بن حيّان فأذِن له، فسلّم عليه وذكَرَ له غيبته وأنَّه جاءه ليقضي حقّه، ثم جزاه خيراً على ما فعل من إخراج أهل الغناء والزِّنا، وقال: أرجو ألّا تكون عملتَ عملاً هو خيرٌ لك من ذلك. قال عثمان: قد عملتُ ذلك وأشار به عليّ أصحابُك. فقال: قد أصبتَ، ولكن ما تقول - أمتع الله بك - في امرأةٍ كانت هذه صناعتها وكانت تُكره على ذلك ثم تركته وأقبلت على الصَّلاة والصيام، والخير، وأتى رسولها إليك تقول: أتوجه إليكَ وأعوذ بكَ أن تُخرجني من جوار رسول الله ومسجده؟ قال: فإنّي أدعُها لكَ ولكلامك. قال ابن أبي عتيق: لا يَدَعكَ الناس، ولكن تأتيكَ وتسمع من كلامها وتنظر إليها، فإن رأيتَ أن مثلها ينبغي أن يُتركَ تركتها؛ قال نعم. فجاءه بها وقال لها: اجعلي معكِ سُبحةً وتخشّعي ففعلت. فلّما دخلت على عثمان حدّثته، وإذا هي من أعلم الناس بالناس وأُعجب بها، وحدّثته عن آبائه وأمورهم ففَكه لذلك، فقال لها ابن أبي عتيق: اقرأي للأمير فقرأت له؛ فقال: احدي له ففعلت، فكَثُر تعجُّبه. فقال: كيف لو سمعتها في صناعتها، فلم يزل يُنزله شيئاً فشيئاً حتى أمرها بالغناء، فقال لها ابن أبي عتيق: غَنّي، فغنّت (...) فقام عُثمان من مجلسه فقعد بين يديها ثم قال: لا والله ما مثل هذه تخرج. قال ابن أبي عتيق: لا يَدعَك الناس، يقولون: أقرَّ سلّامة وأخرج غيرها. قال: فدعوهم جميعاً؛ فتركوهم جميعاً. (الأغاني ج8 ص 479).

 

(5)

للبيع: زنجيّة نصف مهجّنة من سلالة كابيندا، بمبلغ 430 بيزوسا، تعرف مبادئ الخياطة وكيّ الثياب. أطباء وصلوا حديثاً من أوروبا، نوعية أولى، أربعة، خمسة، وستة فنتينز للقطعة. عربة ستُباع بسعر خمسمئة patacones أو مقابل زنجيّة. زنجيّة عمرها ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاماً متحررة من الرذائل من سلالة بانغلا. خلاسيّة صغيرة، في الحادية عشرة، تعرف مبادئ الخياطة. عطر سارساباريلا، الزجاجة ببيزوين. مرضعة، تباع دون نسل، لديها حليب كثير وجيّد. أسد مروّض ككلب، يأكل أي شيء، منضدة وصندوق، من خشب الماهوغاني. خادمة متحرّرة من الرذائل والمرض من سلالة الكونغا، تقريباً في الثامنة عشرة، كذلك بيانو وقطع أثاث أخرى وكلّها بأسعار معقولة.

كان ذلك ما لفت الكاتب الأوروغوايانيّ إدواردو غاليانو وهو يُفتش في أرشيف صحف بلاده عن تاريخ العبوديّة، وكانت هذه الإعلانات في صحف صادرة عام 1840، أي بعد إلغاء العبوديّة بسبعة وعشرين عاماً.



ضمن ملف "تدوينات نسوية"

8EED806C-34F6-4107-B1F6-C5AA339B117F
عمّار أحمد الشقيري

قاص وكاتب وصحفي يقيم في الأردن، مواليد 1984. أصدر مجموعتين قصصيتين؛ القصّاصون على سجيّتهم، وكمائن الخيال، وله مخطوط قيد الكتابة بعنوان: تاريخ المفقودات. نشر القصة والمقال ومُراجعات كتب في الرأي والدستور الأردنيّتين، القدس العربي والعربي الجديد، وغير مجلّة ثقافيّة أردنيّة وعربيّة. حصل على المركز الأوّل في مسابقة القصة القصيرة التي تنظمها وزارة الثقافة الأردنية عام 2012.