التهديد المصري لإيطاليا: منعطف جديد يكشف التوتر في العلاقات

08 يوليو 2016
كان السيسي ورينزي اتفقا على تطوير التعاون(فيليبو مونتفورتي/فرانس برس)
+ الخط -


دخلت العلاقات المصرية الإيطالية منعطفاً جديداً، مع تهديد وزارة الخارجية المصرية في بيان لها بمراجعة التعاون القائم في مجال مكافحة الهجرة غير الشرعية في البحر المتوسط والتعامل مع الأوضاع في ليبيا وغيرها من المجالات التي تحصل إيطاليا فيها على دعم مصر. جاء ذلك رداً على قرار مجلس النواب الإيطالي بتأييد قرار مجلس الشيوخ بتعليق تزويد مصر بقطع غيار لطائرات إف-16 حربية، على خلفية مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني في فبراير/شباط الماضي في مصر.
ووصف البيان المصري القرار بأنه "لا يتسق مع حجم ومستوى التعاون القائم بين سلطات التحقيق في البلدين منذ بداية الكشف عن الحادث، ويتناقض مع الهدف المشترك الخاص بمكافحة الإرهاب لتأثيره السلبي على القدرات المصرية في هذا المجال". ونفت الخارجية المصرية أن تكون السلطات المصرية قد تقاعست عن التعاون مع السلطات الإيطالية، مشيرة إلى أن "الأشهر والأسابيع الماضية شهدت زيارات متبادلة بين جهات التحقيق المصرية والإيطالية تم خلالها تسليم الطرف الإيطالي مئات الأوراق وعشرات الملفات الخاصة بنتائج التحقيقات المصرية بكل شفافية وتعاون".
وأثارت الخارجية، بعد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، قضية مقتل المواطن محمد باهر صبحي إبراهيم علي واختفاء المواطن عادل معوض هيكل في إيطاليا، مؤكدة أن "مصر لم تحصل على معلومات بشأنهما". وأعربت الخارجية عن اندهاشها لعدم اتخاذ مجلس النواب الإيطالي أي إجراء ضد جامعة كامبريدج البريطانية حينما امتنعت عن التعاون مع الجهات المعنية الإيطالية، مؤكدة أن "مصر سوف تظل دائماً حريصة على الحفاظ على علاقتها الخاصة مع ايطاليا، وأنها تتطلع لأن تعكس المواقف الإيطالية الاهتمام والحرص نفسهما".
وخلال جلسة مجلس الشيوخ الإيطالي الأربعاء قبل الماضي، عارض ممثلو الأحزاب اليمينية "تعديل ريجيني" الذي وافقت عليه الأغلبية لفرض عقوبة مبدئية على مصر بمنع توريد قطع غيار طائرات إف-16 لها على خلفية عدم تعاونها مع السلطات الإيطالية لكشف غموض حادث مقتل ريجيني بالقاهرة.

تبعات التهديد المصري
يتوازى التهديد المصري بتعليق التعاون بشأن الهجرة غير الشرعية وليبيا، مع خطاب بعض ممثلي الأحزاب اليمينية في مجلس الشيوخ الإيطالي عن أن "الأمر يتعلق بحليف إقليمي ضد الإرهاب المحتمل" في معرض رفضهم لـ"تعديل ريجيني". وكان السيسي ورئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي قد اتفقا خلال لقاءين في روما والقاهرة العامين الماضيين، على تطوير التعاون الأمني والاستخباراتي في ثلاثة ملفات رئيسية، هي الهجرة غير الشرعية وليبيا ومكافحة التيارات الإسلامية والإرهابية.
وهذه المرة الأولى التي يهدد فيها النظام المصري بتعليق التعاون الأمني أو الاستخباراتي مع دولة أوروبية، الأمر الذي ينفي بشكل قاطع ما كانت تردده دوائر مصرية في السابق من أن هناك تنسيقاً قوياً بين السيسي ورينزي بشأن قضية ريجيني، وينفي أيضاً ما كانت تدعيه الرئاسة المصرية من استمرار الاتصالات الإيجابية بين البلدين.
وراهن السيسي منذ صعوده للسلطة على استمرار تخويف الأوروبيين من أخطار "الإرهاب الإسلامي" القادم من جنوب المتوسط، وتخويف الأوروبيين أيضاً من أخطار تدفقات المهاجرين غير الشرعيين القادمين من سورية وليبيا ومصر. وبالتنسيق مع إيطاليا تحديداً، أقرت حكومة السيسي العام الماضي مشروع قانون لمكافحة الهجرة غير الشرعية، لم يُعرض على البرلمان حتى الآن بانتظار انفراجة في ملف ريجيني، كما قدّم السيسي تعاوناً استخباراتياً وأمنياً لإيطاليا في الملف الليبي الأكثر أهمية بالنسبة لها.


ووفقاً لمصادر دبلوماسية مصرية مطلعة، فإن العلاقات مع إيطاليا "فقدت خصوصيتها منذ مقتل ريجيني، إذ تم تعليق تنفيذ خطة استثمارية خمسية كان من المفترض أن تبدأ في ربيع العام المقبل، كما أن أحزاب الوسط واليسار باتت تضغط على رينزي أكثر لفرض مقاطعة سياسية على السيسي".
وتوضح المصادر أن التهديدات المصرية ﻻ يمكن مساواتها بالقرارات الإيطالية، فهي ﻻ تعدو تخويفاً من قرارات سريعة ستتخذها السلطة السياسية ويمكن التراجع عنها في أي وقت، لكنها في الوقت نفسه تُعتبر اختباراً لمدى قوة النظام المصري القائم في مواجهة الضغوط الأجنبية.
وعن تأثير هذا التهديد المصري على العلاقات الاقتصادية القائمة مع إيطاليا، ﻻ سيما في مجال الطاقة عبر شركة "إيني" الإيطالية مكتشفة ومديرة أكبر حقول للغاز الطبيعي في مصر حالياً، ترى المصادر أن "توتر العلاقات السياسية والأمنية، سيكون له تأثير سلبي على استثمارات هذه الشركة وعلاقتها التي كانت قوية واتصالاتها المستمرة بالسيسي شخصياً، لكن يجب ألا ننسى أن الشركة نفسها، وغيرها من المستثمرين الإيطاليين في مصر، يحققون استفادات كبيرة وفق تعاقدات طويلة الأجل، مما يعني أن الخسارة الأكبر لمصر ستكون في المستقبل وليس في الغد القريب".
ورفضت مصر بشكل تام الاعتراف بمسؤولية أي من أجهزتها الرسمية عن مقتل ريجيني، وساء موقفها أكثر بعدما تأكدت نيابة روما من عدم مطابقة المعلومات التي أعلنتها الشرطة المصرية عن تورط عصابة متخصصة في قتل الأجانب، في الحادث مع بيانات رقمية وسجلات محادثات هاتفية تم تقديمها في وقت لاحق.
وكان المدعي العام للعاصمة الإيطالية قد أرسل طلباً جديداً إلى النيابة المصرية بتوفير سجلات محادثات هاتفية خاصة ببعض الشخصيات الذين تعامل معهم ريجيني خلال الفترة الأخيرة من إقامته في القاهرة، بعد أيام قليلة من إعلان المدعي العام عدم اقتناعه نهائياً بالرواية التي تبنتها الشرطة المصرية بضلوع عصابة إجرامية في الحادث بدافع السرقة.
ولم يتعلق الطلب الإيطالي الجديد بتسجيلات محادثات بعينها، بل بسجلات توقيتات وأماكن المحادثات الهاتفية لعدد من الأشخاص الذين ذُكرت أسماؤهم في التحقيقات كأصدقاء وزملاء عمل ومتعاونين مع ريجيني في دراساته بشأن النقابات المستقلة للعمال في مصر.

هل تبقى الأزمة إيطالية فقط؟
أدى التعامل المصري القاصر والجهود المحمومة للشرطة المصرية في تصوير سيناريوهات مضللة، بحسب وصف نيابة روما، لإفقاد السيسي جزءاً من رصيده الذي حققه خلال العامين الماضيين، من خلال التسويق الاستثماري والأمني والاستخباراتي، ليس في إيطاليا فقط بل في باقي دول أوروبا أيضاً.
فقد حاول السيسي تصوير نفسه للفرنسيين والإيطاليين والألمان في البداية كشرطي حليف يقف على ساحل المتوسط لحماية الأوروبيين من المهاجرين والإرهابيين، وهو ما كان يجد صدى في الإعلام والدوائر السياسية اليمينية في أوروبا، ﻻ سيما الشخصيات المعروفة بالعداء للأجانب والتيارات الإسلامية بصفة خاصة.
وبالتوازي مع خطاب التخويف والتلويح بأن أي تغيرات سياسية جديدة في مصر ستعني انهيار الدولة وتحوّل مصر إلى كيان فاشل كسورية وليبيا، بدأ السيسي يفتح سبلاً جديدة لجذب العواصم الأوروبية بإفادتها اقتصادياً، فحوّل مصر إلى سوق خصبة للأسلحة الفرنسية التي كانت تعاني ركوداً في السنوات الأخيرة، وقدّم تسهيلات استثمارية غير مسبوقة للألمان والهولنديين الذين عانوا كثيراً من المشاكل في مصر على مدار العقد الماضي.

إلا أن واقعة ريجيني مثّلت نقطة تحوّل في العلاقات بين السيسي وأوروبا، إذ بات بعض الأوروبيين يتعاملون معه بمزيد من الحذر، فلم يقتصر الأمر على أضرار في الملف الإيطالي، بل بدأ الفرنسيون والألمان يطرحون أسئلة لاذعة عن مستقبل الملف الحقوقي والأمني في مصر ارتباطاً بمصالح مواطنيهم المقيمين في مصر ومنظماتهم العاملة بها. كما جاءت توصية البرلمان الأوروبي لخفض الدعم العسكري والسياسي لنظام السيسي كبداية لتحرك أوسع يتخذ أشكالاً عديدة، من بينها تشكيل لجنة أوروبية لتقصي الحقائق حول مقتل ريجيني.
ويرى مراقبون أن الطريقة التي اعتمدها البرلمان الإيطالي لمعاقبة مصر في ملف ريجيني، وهي تعليق توريد قطع غيار طائرات حربية أميركية، قد تفتح الباب أمام دول أخرى لتكرار هذه العقوبة التي قد ﻻ تبدو مؤثرة على نطاق واسع، لكنها كفيلة بإلحاق الضرر بالنظام المصري، والذي يسعى بعد العام 2013 لزيادة قدراته العسكرية بامتلاك أسلحة جديدة وتنويع مصادر التسليح.