التنوير بالقرع

25 مارس 2015
+ الخط -
مرة أخرى، ولن تكون الأخيرة، يُظهر السيسي رغبته في ترويج نفسه للغرب، بوصفه زعيم التنوير والإصلاح الديني، أكثر من إظهار سعيه إلى أن تشهد مصر تنويراً حقيقياً وإصلاحاً فعلياً. لم يعد السيسي يكتفي بتكرار المنطق المباركي "أنا أو الإرهاب"، بل أصبح يقدم للإعلام الغربي مانشيتات مثيرة، لزيادة مبيعات نموذجه لدى المجتمعات الغربية التي تعاني من كوابيس الرؤوس المقطوعة، بينما يواصل نظامه تحويل مصر إلى دولة بوليسية، على سنّة الله ورسوله، فيغازل العواطف الدينية في خطاباته المخصصة للاستهلاك المحلي، ويستخدم الأزهر ومشايخ السلفيين لشرعنة قتل خصومه وقمعهم، ويستمر في تلبيس قضايا ازدراء الأديان لإظهار غيرته على الشرع، ويرفض إصدار تشريعاتٍ، أو تعديلات قانونيةٍ، تترجم النصوص الدستورية البراقة الحامية للحريات إلى واقع ملموس. 
في حواره الأخير مع صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، آنس السيسي من نائب رئيس تحريرها إعجاباً، فمنحه تصريحات يعلن فيها محبة ملتهبة لأميركا مثل "لن نعطي ظهورنا لأميركا مهما أعطتنا ظهرها"، ويمعن بعضها في الاستنارة، مثل "الإسلام لم يقل إن المسلمين هم من سيدخلون الجنة، وسيُلقى غيرهم في الجحيم، ولم يعط للمسلمين الحق في إملاء معتقداتهم على العالم"، والتصريح الأخير ذكّرني بموجة عاتية من التكفير تعرضتُ لها، في أكتوبر/تشرين الأول 2011، بمشاركة من كبار مشايخ السلفيين من حلفاء السيسي، بعد أن كتبت بضع تغريدات، تحولت بعدها إلى سلسلة مقالات، ناقشتُ فيها، على قد فهمي ومعلوماتي، اعتقاد غالبية المسلمين بأنهم سيحتكرون دخول الجنة دون غيرهم، حتى لو كانوا أنفع للإنسانية والكون، ولم يكن في ما كتبته بِدعاً من القول، فقد سبقت إثارته في عدد من كتب التراث التي استشهدت ببعضها، أملا في فتح نقاش جاد، يساهم في تطوير موقفنا الإنساني من العالم الذي نعيش عالة عليه، في حين يعتقد أغلبنا، ويصرحون بذلك، من دون مواربة، بأنه عالم خلقه الله لخدمة الأمة الإسلامية، وستُلظّى به نار جهنم بعد إتمام المهمة.
والآن، وبعد أن قال السيسي كلاما مشابها في قضية احتكار المسلمين دخول الجنة، ومثلما لا أتوقع من عتاة القومجية الذين قضوا أعمارهم في لعن سنسفيل أميركا، أن يعترضوا على ابتذال السيسي في محبتها، لا أتوقع من مشايخ السلفيين الذين يديرهم ضباط أمن الدولة بالتليفون، أن يكفّروا السيسي، أو يصفوه بـ "مؤذن الشيطان"، فقد أصبحنا نعلم، بالتجربة، أن درجة علو الصوت الزاعق لا يحركها صدق الإيمان بالقضية، بقدر ما تتحكم فيها المصالح والتربيطات وقدرة كف البيه الضابط على طرقعة القفا.
في سياق مختلف، كنت سأحترم جرأة السيسي في طرح فكر ديني مختلف، لكنني أؤمن أن الاستبداد السياسي لا يتعامل مع حرية الفكر والعقلانية والتنوير، إلا بوصفها كروت لعب مشابهة لكروت التدين والوطنية واحترام المرأة، ولذلك، أدرج تصريحاته في فئة القرع الذي يذكرنا المثل الشعبي بأنه "دايماً يمدّ لبرّه". ومع ذلك، أدرك أن كثيرين من خصوم السيسي سيبالغون في تصوير جديتها، واستغلالها في إذكاء نيران الإرهاب الدامي، في حين سيتجاهلها متدينون كُثُر، لم يناصروا السيسي، إلا رغبة في انفضاض مولد الثورة، وعودة مصر إلى زمن الخواء الجميل الذي يتناسون أنه "جاب البلد كلها ورا"، ولن يفرح بتصريحاته إلا الذين يظنون أن التنوير يمكن أن يتحقق بقرارات فوقية تحميها البيادة، وأن الحرية يمكن أن تتجزأ، فنقطع منها على مقاس السيسي ما يفيده في معركته مع جماعة الإخوان، ونقطع رقبة الحرية، ونلقي أنصارها في غياهب السجون، إذا داسوا للسيسي ونظامه على طرف.
وبعيداً عن هؤلاء وأولئك، سيبقى معلوماً من الكون بالضرورة أن حرية العقيدة والفكر مرتبطة بحرية التعبير الشاملة، وبالمجال السياسي المفتوح، حيث يختبر الناس خطأ الأفكار بتجربتها، وليس بقتل أصحابها وسجنهم، ولو تأمل الجميع في أحوال منطقتنا المنكوبة، لأدركوا أن للتطرف القاطع للرقاب أسباباً مُركّبة، وجذوراً متعددة، لكنه اكتسب أرضاً أخصب وانتشاراً أسرع، في الدول التي تم فيها قتل السياسة واستلاب الحريات بدعوى مصلحة الوطن، وهو ما يوافق كثيرون على تكراره في مصر، بدافع كراهيتهم ممارسات جماعة الإخوان وأفكارها، وكل ما يمتّ إليها بِصلة، وبعض هؤلاء تعميهم، الآن، نشوة القوة المتوهمة، فيرددون أفكاراً لا تقل تخلفا وتعصبا عن أفكار الجماعات الدينية المتشددة، ويواصلون، برعونة، تعميق الشروخ الاجتماعية المخيفة التي بدأت خطورتها منذ أحداث الاتحادية، وما تلاها، متناسين أن القوة المسلحة لن تمحو فكراً من الوجود، أياً كانت كراهيتنا لمن يحمله، ومتجاهلين أن إدارة الصراع السياسي مع الخصوم، بكل هذا الانحطاط والجبروت، لن تصنع إلا إرهاباً أقسى وأغبى، ولن تنتج إلا مزيداً من الدماء والدموع. 
 
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.