والآن، بعد 3 سنوات من هذا الحدث المزلزل، أصبحت أسباب المشاركة العربية والأجنبية واضحة جلية، إذ كشفت سياسة مصر الخارجية التي رسمها الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي منذ كان وزيراً للدفاع، الخطط البعيدة التي كانت ترنو إليها بعض الدول من خلال علاقتها بمصر، والتعجيل بعزل مرسي وإبعاد جماعة "الإخوان" عن المشهد كتيار إسلامي هو الأكبر شعبية والأكثر تنظيماً. وتبيّن أن محمد مرسي بصفته رئيساً يستمد شرعيته من ثورة شعبية وانتخابات، كان يقف حجر عثرة في طريق مخططات إقليمية وأجنبية تريد استغلال مصر في معادلات تتعلق بتسوية أوضاع دول أخرى، ومنعها من أن تكون قاطرة القيادة لتحرك عربي كان مأمولاً في مطلع العقد الحالي نحو نماذج حكم أكثر ديمقراطية وتعبيراً عن آمال الشعوب.
بداية التدخلات
أحدث تتابع الثورات الشعبية في تونس ثم مصر مطلع 2011، انزعاجاً واسع النطاق في بعض العواصم العربية التي عُرفت بعلاقتها الوطيدة بالقيادة السياسية في الدولتين، لعدة أسباب على رأسها قلق تلك العواصم على مصالحها السياسية والاقتصادية في الدولتين وخصوصاً مصر، بالإضافة إلى القلق من صعود التيار الإسلامي غير المرغوب فيه من تلك العواصم، وأيضاً تخوفاً من احتجاجات أو تحركات شعبية للمطالبة بهامش أوسع من الديمقراطية وتداول السلطة على غرار ما حدث في مصر وتونس.
يمكن تحديد هذه الدول التي انتابها القلق بسهولة، والتي لها حسابات أخرى غير المصالح الاستثمارية والصعود الإسلامي، تتمثل في علاقتها بالملف الفلسطيني والدور المزدوج الذي لعبته مع مصر في عهد مبارك للتحكم في الوضع الداخلي الفلسطيني وضبطه بما لا يخل بأمن إسرائيل والعلاقات المطبعة معها. وخلال فترة حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، برزت إعلامياً ضغوط اقتصادية من السعودية والإمارات والكويت على مصر، تمثّلت في سحب بعض الاستثمارات، ولجوء مستثمرين للتحكيم الدولي، والترغيب في تقديم مزيد من الدعم المالي في ظل الإنفاق غير المحسوب للمجلس العسكري من الاحتياطي النقدي، وذلك كله في مقابل عدم محاكمة مبارك أو تخفيف الأحكام الصادرة ضده، بل إن المجلس العسكري تلقى عروضاً صريحة في بداية حكمه لتسهيل تسفير مبارك وأسرته إلى الخارج، إلا أن الرئيس المخلوع نفسه لم يقبل بذلك.
أما إسرائيل، العدو المترصد دائماً، فقد كانت أكبر المنددين بحالة الفراغ التي طرأت على السلطة في مصر، لا سيما بعد فقد المجلس العسكري سيطرته جزئياً على سيناء نتيجة ضعف الشرطة المحلية وانهيار إدارتها بعد جمعة الغضب في 28 يناير/كانون الثاني 2011، وتكرار وقائع تفجير خط تصدير الغاز المصري لإسرائيل، ثم مبادرة المجلس العسكري تحت ضغط شعبي لإعلان وقف تصدير الغاز لحين إعادة هيكلة اتفاقيات التسعير الموقعة مع الطرف الإسرائيلي التزاماً بحكم قضائي صدر عام 2010، بالإضافة إلى إعلان المجلس العسكري الإمساك بجاسوس إسرائيلي، وما رصدته تل أبيب من صعود للجناح المحافظ من العسكرية المصرية تجاه إسرائيل وتهميش رئيس جهاز الاستخبارات الأسبق اللواء عمر سليمان الذي كان ممسكاً بملف العلاقة الثنائية بين البلدين لأكثر من 20 عاماً. ويمكن إجمال التدخلات الإقليمية في الشأن المصري من بداية 2011 وحتى منتصف 2013 مروراً بفترة حكم مرسي كالتالي بالنسبة للدول الرئيسية التي دعمت وأيدت انقلاب 3 يوليو/تموز:
أولاً، السعودية:
كشفت وثائق "ويكيليكس" المسربة ارتباكاً سعودياً في قراءة الأحداث في مصر مع سقوط مبارك الذي كان يُعتبر حليفاً تقليدياً للرياض، لكن السعودية سارعت لطرح مشاكلها العالقة مع مصر على المجلس العسكري مباشرة بعد توليه سلطة الحكم المؤقتة، مما شكل ضغطاً لا يمكن تجاهله. فقد كانت مهمة أول وفد سعودي زار مصر بعد خلع مبارك هي التفاوض لحل أزمة ترسيم الحدود البحرية وتحديد تبعية جزيرتي تيران وصنافير بمدخل خليج العقبة، وكانت هذه أول خطوة جادة في المفاوضات التي كانت معلقة في آخر 5 سنوات من عهد مبارك، وطلب المجلس العسكري آنذاك، بحسب مصادر مطلعة، أن تؤجل السعودية التباحث حول هذا الملف لحين انتخاب سلطة تشريعية وتنفيذية.
كما أوقف مستثمرون سعوديون كثر أعمالهم داخل مصر أو أبطأوا معدلاتها بالمخالفة للعقود المبرمة مع الطرف المصري، في محاولة لاستكشاف طبيعة النظام المصري الجديد، وهو ما أثقل كاهل الاقتصاد المصري بالأعباء، وكان أحد دوافع المجلس العسكري لفتح اعتمادات جديدة باضطراد لميزانية الدولة من دون أن يقابل ذلك بزيادة في الناتج القومي. وعندما بدأت الاستحقاقات السياسية بانتخاب مجلسي الشعب والشورى نهاية 2011، كانت مواقف الرياض إيجابية تجاه صعود التيار الإسلامي ممثلاً في "الإخوان" والسلفيين بحزب "النور"، وأعلنت أكثر من مرة ترحيبها بهم، وهو ما قوبل بتحفظات من "الأحزاب العلمانية" المصرية، وتعكس وثائق "ويكيليكس" تقييماً إيجابياً لبعض قيادات "الإخوان" تحديداً.
وفي الانتخابات الرئاسية التزمت السعودية الحياد بين مرسي ومنافسه المنتمي لنظام مبارك، أحمد شفيق، وبدا أن الرياض تنتظر صعود الطرف الأقوى لتتعامل معه، وبدا أن تمسكها بسلامة مبارك وتأمين حياته ومنع معاقبته متعلق بشخصه أكثر من نظامه. غير أن انتهاج مرسي سياسة متوازنة ملحوظة مع إيران وتعيينه أحد الدبلوماسيين المصريين المعروفين بعلاقتهم الوطيدة بطهران وهو محمد رفاعة الطهطاوي، كان بداية الخلاف، خصوصاً بعد حديث مرسي الإيجابي عن إيران في قمة عدم الانحياز التي استضافتها طهران والقمة الإسلامية التي استضافتها القاهرة.
كما أن ملك السعودية الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، لم يُعجب كثيراً بشخصية مرسي، واعتبر أن من الصعب الوثوق فيه، على خلفية اللقاء الأول بينهما خلال زيارة مرسي للمملكة، والتي حرص أن تكون أولى زياراته الخارجية. ووفقاً لمصادر دبلوماسية رافقت مرسي في تلك الزيارة، فإن الفارق بدا شاسعاً بين تفكير الرجلين ورؤيتهما للأحداث الإقليمية القائمة، خصوصاً الموقف في سورية والعلاقة مع تركيا بشأن الملف السوري تحديداً، وكذلك العلاقة بحركة "حماس". وترى المصادر أن هذه الزيارة التي لم يحاول فيها مرسي مواربة وجهات نظره، أدت إلى خصومة شبه معلنة بين الطرفين، وأصبح السعوديون يأملون في إزاحة مرسي والتعامل مع أي بديل أقرب لمبارك.
ثانياً، الإمارات:
بدأ الإماراتيون تدخلاتهم في الشأن المصري من بوابة الاستثمارات والإعلام، فمنذ مارس/آذار 2011 بدأت المؤسسات الإماراتية الاستخباراتية والاستثمارية جهوداً حثيثة للتحكم في المشهد الإعلامي المصري وتوجيهه صوب إعادة إنتاج نظام مبارك بنكهة أكثر حداثة وليبرالية، فلم يكن خافياً منذ ذلك الحين علاقات دوائر إماراتية نافذة بشبكة قنوات "سي بي سي" التي أصبحت القناة المصرية الأكثر تأثيراً وقرباً لدوائر السلطة بين عامي 2011 و2014. ودعم الإماراتيون 3 مشاريع إعلامية أخرى معارضة للحكم، بدأ التحضير لها في عهد مرسي، هي موقع "البوابة" لصاحبه عبدالرحيم علي وهو الصحافي المعروف بعلاقاته ببعض رجال الحكم في دبي وأبو ظبي، وموقع "دوت مصر" الذي كان مقرراً أن يديره الصحافي الذي كان نافذا في عهد مبارك، عبدالله كمال، وبعد وفاته تم تسليم المشروع لضابط الاستخبارات السابق ياسر سليم أحد الممثلين الرئيسيين للدائرة الاستخباراتية-الرقابية التي شكّلها السيسي لإدارة المشهد السياسي في مصر، بالإضافة إلى قناة "الغد العربي" التي ترأسها الإعلامي "المباركي" أيضاً عبداللطيف المناوي.
الأجندة الإماراتية كانت واضحة في دعم أحمد شفيق مرشح فلول نظام مبارك، وهناك دلائل دامغة لدعمه مالياً ولوجيستياً خلال حملته الانتخابية، واستغلت الإمارات لدعمه القنوات الفضائية التابعة لها على النحو المذكور وعلى رأسها "سي بي سي" التي تحولت بعد فوز مرسي إلى أكبر ساحة لمعارضته وتسفيه قراراته والتحريض على إسقاط حكمه، ثم باتت القناة الأكثر التصاقاً وتعبيراً عن تحالف قيادة الجيش والأحزاب الموصوفة بـ"المدنية" التي شكّلت "جبهة الإنقاذ نهاية" عام 2012.
وفتحت الإمارات أبوابها لشفيق ليبقى فيها حتى الآن محصناً في كنف شخصيات سياسية نافذة بها، على الرغم من المطالبات القضائية العديدة ضده في مصر من النيابة العامة والنيابة العسكرية. وفي الوقت ذاته كانت قد بدأت دعم حركة "تمرد" التي اختفت بمجرد عزل مرسي، وأجزلت العطاء مالياً وأدبياً للناشطين فيها وعلى رأسهم النائب الحالي محمود بدر الذي تحوّل من صحافي ناشط في التيار الناصري إلى رجل أعمال ونائب برلماني ضمن القائمة المدعومة من السيسي مباشرة.
وكانت تحركات الإمارات المكثفة والممنهجة لتقويض دعائم النظام المنتخب، نابعة من رفضها لأي صعود إسلامي في مصر، نتيجة موقف سلطتها الحاكمة من التيارات الإسلامية بشكل عام، وبسبب النفوذ الاستثنائي للقيادي الفلسطيني المطرود من حركة "فتح" محمد دحلان في السلطة الإماراتية وهو المعروف بمعاداته لكل الحركات الإسلامية.
ثالثاً، الكويت:
خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية المصرية، اتهمت قوى "علمانية" مصرية الكويت بتسهيل إرسال دعم مالي ضخم من أحزاب سلفية كويتية إلى حزب "النور" السلفي، وكذلك إلى جماعة "الإخوان" خلال انتخابات الرئاسة، بل إن دفعاً في هذا الإطار كان من أبرز ما استند إليه المرشح الرئاسي الخاسر أحمد شفيق في طعنه على فوز محمد مرسي بالرئاسة عام 2012. وعلى الرغم من أن هذه الاتهامات لم تثبت صحتها، فإن الكويت على الصعيد الرسمي كانت الأقل تدخلاً بين القوى الخليجية في الشأن السياسي المصري، إلا بالتفاعل مع مبارك وأسرته شخصياً، ورفض محاكمته أو تعريض حياته للخطر، وأدى ذلك إلى انسحاب وتعليق عدد من المستثمرين الكويتيين أعمالهم في مصر، ولجوء البعض الآخر إلى التحكيم الدولي ضد الحكومة المصرية.
وبسبب ملف محاكمة مبارك لم تكن العلاقة طيبة بين حكومة مرسي والكويت، خصوصاً بعد إشارات فهم منها وكأنها تقارب بين القاهرة وطهران، إلا أن الكويت أيضاً لم تسارع لاتخاذ إجراءات لتقويض النظام المنتخب، كما لم تسارع في تقديم دعم مالي للجيش أو الحكومة المعينة من قبل السيسي بعد الانقلاب، وهو ما انتقده ذات مرة علانية الرئيس المؤقت السابق عدلي منصور.
رابعاً، إسرائيل:
نظرت إسرائيل إلى مرسي و"الإخوان"، على اعتبار أنهما الحاضن لحركة "حماس" التي قادت منذ منتصف الثمانينيات، جبهة المقاومة الفلسطينية. وعلى الرغم من تبادل الرسائل البروتوكولية بين مرسي والرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، إلا أن قرارات اتخذها مرسي كإسقاط الاتهامات عن المواطنين المتهمين في حادث اقتحام السفارة الإسرائيلية بالجيزة، أصابت العلاقات الثنائية بالبرود، بالإضافة إلى تعيين مرسي للواء رأفت شحاتة مستشاراً أمنياً له، وهو المعروف بنشاطه البارز في اصطياد الجواسيس الإسرائيليين ومواقفه المؤيدة لـ"حماس" خلال مساعدته اللواء عمر سليمان في إدارة الملف الفلسطيني.
وجاء العدوان الإسرائيلي على غزة في 2012 والدور الذي قام به مرسي بنجاح في الوصول إلى هدنة عاجلة وبصورة فاقت توقعات الوسطاء الأميركيين وعلى رأسهم وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون، لتتأكد إسرائيل أنها تتعامل مع إدارة مصرية ذات أجندة مختلفة عما كانت عليه إدارة مبارك، وأن أمن الفلسطينيين في قطاع غزة على رأس أولويات هذه الإدارة الجديدة، وهو ما أثار مخاوف تل أبيب.
وزاد العلاقات فتوراً، بحسب مصادر عملت في رئاسة الجمهورية في عهد مرسي، أن الأخير أصدر أوامر بتحركات عسكرية في مناطق غير معتادة في سيناء من دون مشاورة الإسرائيليين لأول مرة، بالإضافة إلى تعامله في ملف سيناء بطريقة سياسية تهدف إلى دمج الفصائل السياسية الإسلامية والقبلية هناك مع المجتمع المصري في وادي النيل، وتبديد مخاوفهم والنزاعات المتوارثة بينهم وبين الشرطة المصرية، وهو ما لم تكن ترحب به إسرائيل، وتعتبره خطراً على أمنها، لا سيما في ظل تنامي أعمال جماعة "أنصار بيت المقدس" التي تحوّلت لاحقاً إلى تنظيم "ولاية سيناء" التابعة لتنظيم "داعش".
كل هذه الاعتبارات أدت إلى ترحيب إسرائيل المتصاعد منذ 3 سنوات بالسيسي ونظامه، وإعلان التنسيق معه صراحة في ملفات عديدة تخص فلسطين المحتلة وسيناء، وترحيب إسرائيل بالحل العسكري المصري في شمال شرق سيناء والذي حوّل منطقة رفح-العريش-الشيخ زويد إلى منطقة حدودية شبه معزولة وغلق الأنفاق الحدودية وغمرها بالمياه مما أضفى مزيداً من التأمين الاستراتيجي للحدود الإسرائيلية، وهي تصرفات لم يُقدم عليها مبارك في أزهى فترات تفاهمه مع الإسرائيليين.
خامساً، روسيا:
كان انشغال روسيا المباشر بالدفاع عن نظام بشار الأسد في سورية محدداً أساسياً في علاقتها بالسلطة المنتخبة في مصر قبل انقلاب 2013، فمن جهة لم تكن موسكو مهتمة كثيراً بما تشهده مصر من تحوّلات ولم تحاول القيام بدور تماماً كما كانت علاقتها بالقاهرة في عهد مبارك، وفي مرحلة لاحقة فقدت موسكو حماسها لمرسي وجماعة "الإخوان" نهائياً وتحديداً بعد اتخاذ مرسي قراراً بتعليق العلاقات مع نظام بشار الأسد والدعم المعنوي والأدبي الذي قدّمه للمعارضة السورية.
كما أن النظام الحاكم في روسيا له اعتراضاته الخاصة على التيارات الإسلامية بصفة عامة وجماعة "الإخوان" خصوصاً، على خلفية الحرب في الشيشان وقبلها الحرب في أفغانستان، وعلى ذلك فروسيا كانت الدولة الوحيدة التي تعتبر جماعة "الإخوان" إرهابية قبل 2013، مما يُعتبر سبباً آخر لدعمها غير المباشر للانقلاب. ويضاف إلى ذلك، أن روسيا ارتأت في يونيو/حزيران 2013 أنها قد تكون فرس الرهان للنظام العسكري المقبل في مصر، في ظل عدم ترحيب الإدارة الأميركية بأسلوب الانقلابات العسكرية وتحديداً في دول الربيع العربي، وهذا ما يفسر مسارعة السيسي بعد الإطاحة بمرسي إلى التوجه شرقاً ومحاولة إحلال روسيا بدلاً من الولايات المتحدة كداعم أساسي للنظام عسكرياً وسياسياً، وهو ما تعثر لاحقا لعجز نظام السيسي عن تحقيق وعوده.