التمثيل بالجثث والحرب السورية

14 فبراير 2018
+ الخط -
لم تشهد سابقاً الساحة الإعلامية السورية والعربية هذا المستوى من الجدل وتسليط الضوء على مسألة التمثيل والتنكيل بالجثث في الحرب السورية، على الرغم من أن هذا التصرف يعد شائعاً جداً بين القوى المتصارعة. 

قد يكون وقوع هذا التصرف على امرأة للمرة الأولى هو الذي أثار كل هذه الضجة، وهذا مبرر جداً في المجتمع السوري الذي تتمتع المرأة فيه بخصوصية، ويتم التعامل معها بقواعد اجتماعية صارمة.

ربما كانت هذه الحادثة فرصة لتأكيد النخب السورية على مختلف التوجهات إدانتها هذا العمل الذي يحط من قدر الإنسان، ويسيء للسوريين وصورتهم بشكل كبير أمام العالم. لكن الغريب أن هذه الحوادث من الشيوع بين المقاتلين لدرجة أنهم أنفسهم قد يستغربون من موقف الآخرين منها.

فبالنسبة إلى كثير منهم، كل ما قاموا به أمر اعتيادي ومباح ولا يحتاج هذا الكم الهائل من الضجيج، وحتى لو كانت الجثة التي يقع عليها التنكيل تنتمي إلى الجهة التي يقاتل معها، والمقاتل نفسه يتوقع تنكيلاً مشابهاً لجثته في حال وقعت في يد خصومه. هذا الاستغراب طبيعي مقارنة بالمستوى الإنساني المنحدر الذي وصلت إليه الحرب السورية، وإلى طبيعة الصراع المحتدم.


يبرز هنا ابتعاد النخب السورية عن واقع وتفاصيل الحرب والقوى العسكرية التي تفننت في انتهاك كل قوانين الحرب وقواعد الاشتباك. فبينما تبدو لنا الحرب في بيوتنا كلعبة من الألعاب الاستراتيجية كالـ generals أو red alert أوclash of clans هي في الحقيقة حقد يتراكم في قلوب السوريين وذكريات تحفر في عقولهم، وأشخاص ومنازل وشوارع فقدوها للأبد، تظهر لنا على شكل رغبة لا يستطيع أحد مقاومتها في الانتقام من الخصوم، الذي يعد التنكيل والتمثيل بالجثث أحد صوره.

بالإضافة إلى أنه لدينا الآن جيل كامل تربى على مشاهدة القتلى الذين يسقطون بشكل يومي في عمليات القصف والمعارك، مع انتشار كبير لعمليات الإعدام التي كانت تجرى في أماكن عامة، خصوصاً في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، فلم تعد لجثة الإنسان الميت تلك الحرمة والهيبة التي لدينا. كما علينا ألا ننسى تأثير ممارسات النظام السوري على قيمة وحرمة الإنسان في الحالات العادية، وفي الحالات التي يخدم فيها كمجند في جيش النظام، أو يدخل فيها هذا الإنسان سجون وأقبية المخابرات، التي يخرج منها في كثير من الأحيان جثة هامدة.

التمثيل بالجثث بالتأكيد ليس وليد هذه الحرب، بل لعله لا تخلو أي حرب في التاريخ من هذه العمليات التي يزداد عددها مع المستوى الإنساني المنحدر الذي وصلت إليه، والذي يعد وسيلة لترهيب الخصوم والمنافسين ورسالة للمتحمسين للمواجهة، والأمثلة التي لا تعد ولا تحصى تثبت لنا أن التمثيل بالجثث هو أحد أبرز عوارض الحروب.

بالطبع هذا الكلام ليس مبرراً لكل ما يجري، وإدانته بهذا الشكل الواسع هي ظاهرة صحية، خصوصاً عندما تأتي الإدانة من الأطراف التي يحسب عليها فاعل هذا التصرف، إنما هو نظرة من زاوية أخرى لهذه الأحداث التي ميّزت الحرب السورية، ودعوة للقيام بتحرك جدي لمواجهة هذه الظواهر، والقيام بتحليل علمي لوضع يدنا على الأسباب، والبدء بعلاجها على كل المستويات النفسية والاجتماعية والعسكرية.

وبالعودة إلى الحادثة التي أثارت كل هذه الضجة، وهي قيام مقاتلين في صفوف الجيش الحر بالتمثيل بجثة المقاتلة بارين كوباني في عملية غصن الزيتون التي يشنها الجيش التركي لاستهداف وحدات حماية الشعب الكردية في منطقة عفرين، لم يراع المقاتلون خصوصية وضع المرأة في المجتمع السوري، ضاربين عرض الحائط أي مبادئ أو أعراف إنسانية عالمية أو خاصة بهذا المجتمع.

سبق هذه الحادثة جدل واسع على قيام وحدات حماية الشعب الكردية بتجنيد إجباري للفتيات في إطار سياستهم في المساواة بين الرجل والمرأة. لهذه السياسة مؤيدون ومعارضون كثر وليس كلامنا هنا في إطار بحث هذا الموضوع، إلا أن هذا الأمر هو المساهم الأكبر في وجود العنصر النسائي على الخطوط الأولى في المعارك والاشتباكات، ما قد يعرضها للقتل والأسر أو التمثيل بالجثث بطبيعة الحال. بينما لا يوجد هذا الأمر لدى بقية الأطراف، ليصعب بالتالي حدوث حوادث تنكيل بالجثث تقع على النساء من قبل الجهات التي تقاتلهم.

الحادثة تتطلب منا الإدانة والاستنكار بشكل مجرد وبدون لف ودوران، وبدون تبريرها، كما فعلت بطريقة مخزية بعض الشخصيات بتصرفات مماثلة لقوات حماية الشعب، أو بانتهاكات مشابهة مثل عمليات التهجير في المناطق التي سيطروا عليها. كذلك تتطلّب منا ألا نسمح باستخدام هذه الأفعال لأغراض الدعاية والترويج للجهة التي نقوم بدعمها، وهذا أمر شائع جداً لدى جميع الأطراف التي اعتادت تضخيم انتهاكات الخصوم، وتقزيم انتهاكات الجهة المحسوبة عليها، الأمر الذي يعد تصرفاً لا يقل فظاعة عن مرتكبي هذه الانتهاكات.

العمل على هذا الجانب يجب أن يشمل جميع الانتهاكات وجرائم الحرب التي ترتكبها مختلف الأطراف، لا سيما منها التي لا تقع على الأموات، فعلى الرغم من قساوة مشاهد التنكيل بالجثث؛ فبالنهاية لن يضر الشاة سلخها بعد ذبحها، أقتبس هنا من مقولة أسماء بنت أبي بكر لابنها عبد الله بن الزبير قبل قتله من قبل الحجاج.

لكن تبقى الممارسات الأخطر هي ما يتم ارتكابه بحق الأحياء، عسكريين كانوا أم مدنيين، الضحايا الأكبر لهذه الحرب، التي علينا جميعا الوقوف ضدها، وعدم تبريرها أو محاولة إنكارها بدون أدلة، والتجرَد في التعامل معها عن كل شيء سوى الإنسانية التي تفرض علينا احترام الإنسان وحقوقه وتحييد المدنيين بغض النظر عن الموقف الذي يتخذونه وعدم إباحة التعامل مع الخصوم أو الرد على انتهاكاتهم بانتهاكات مماثلة.
F9E7FACD-A5FE-4E3B-B07E-BF922F1FAA38
محمد جلال

كاتب سوري يكتب باسم مستعار من وحي المشاهدات في الداخل السوري... مؤلف كتاب هذه ثورتي.يقول: إن كنتم لم تضغطوا الزناد فأبدا لا يعني أنكم لم تقتلونا.

مدونات أخرى