التلوث المائي العربي [2-2]... الجزائريون ضحايا الفشل الحكومي في زمن الكوليرا

09 سبتمبر 2018
إغلاق منبع سيدي الكبير بسبب وجود بكتيريا الكوليرا(العربي الجديد)
+ الخط -
لم يكن الثلاثيني الجزائري محمد أوراق يعتقد أن جدته مصابة بالكوليرا بينما كان ينقلها من مسكنها في قرية المرابحية، وسط محافظة البويرة، شرقي الجزائر، لزيارة خاله سمير، الراقد في مستشفى الهادي فليسي "القطّار سابقا" في العاصمة، رغم أعراض التعب والإسهال البادية عليها؛ إذ إن طبيب القرية شخّص حالتها قائلا إن "الأمر عادي، وقد يتعلق بحالة تسمم بسيطة".

يضيف محمد، بحرقة، "نقلنا جدتي عدة مرات إلى مستشفى البويرة، وفي كل مرة يصف لنا الطبيب قائمة لا تنتهي من أدوية علاج التسمم، لتغادر الجدة ويزداد الألم"، واستمر ذلك 5 أيام، إلى أن تضاعفت الشكوك حولها، لنتلقى تعليمات بنقلها على وجه السرعة إلى مستشفى القطّار، وهو نفس المكان الذي يرقد فيه ابنها منذ 10 أيام، من دون إبلاغهم بطبيعة مرضه، ولكن شاءت الأقدار، كما يقول محمد، أن تتوفى الجدة في 19 أغسطس/آب الماضي، قبل نقلها للمستشفى من دون معرفة السبب.

الغريب في الأمر أن 8 أفراد من عائلة أوراق أصيبوا بهذا الوباء، إلا أن إدارة المستشفى لم تبلغهم بطبيعة المرض، حيث تم نقلهم جميعا إلى مستشفى القطّار في العاصمة وخضعوا للتحاليل، وكان أول المصابين سمير البالغ من العمر 45 سنة، حيث مكث الأخير 12 يوما في المستشفى، وكان يتلقى زيارات أفراد عائلته، لتنتقل العدوى إليهم أيضا، إلا أنهم جميعا تمكنوا من الشفاء، ما عدا الجدة التي توفيت في بيتها بقرية المرابحية.


عودة الأمراض الوبائية

تُعرف الكوليرا بأنها التهاب معوي تسببه عصيات جرثومية يطلق عليها ،(Vibrio Cholerae) يتسبب في عدوى حادة تسبب الإسهال، وتنجم عن تناول الأطعمة أو شرب المياه الملوّثة بضمات بكتيريا الكوليرا، وفق تعريف منظمة الصحة العالمية. وأعلنت وزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات الجزائرية عن ظهور بكتيريا الكوليرا في الجزائر رسميا في الـ22 من أغسطس المنصرم، وذلك بعد وفاة مدرب المنتخب الجزائري للملاكمة عثمان دحماني، في مستشفى بوفاريك التابع لمحافظة البليدة. لتعاود مصالح الصحة فتح قضية تسمم 10 أشخاص، أدخلوا قبلها بـ10 أيام، على وجه السرعة للأقسام الاستعجالية في مستشفيات محافظات مجاورة للعاصمة الجزائر، وهي البليدة وتيبازة والبويرة، وحينها تم إرجاع السبب إلى وجود مواد غير مطابقة في مياه الشرب، وفق ما أعلنته وزارة الصحة.

ويقول محمد إن أفراد عائلته لم يشربوا من مياه نبع سيدي الكبير في بلدية أحمر العين، التي أعلن المدير العام للوقاية في وزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات، جمال فورار، في مؤتمر صحافي يوم 25 أغسطس الماضي، أنها وراء انتشار الوباء. ليتم إغلاق المنبع وردمه بالأتربة من قبل السلطات المحلية.

وفي خلال 15 يوما، حدد عدد الإصابات بالكوليرا بـ 73 حالة مؤكَدة حتى تاريخ 5 سبتمبر/أيلول الجاري، فيما اشتبه في وضعية أكثر من 200 مريض غادروا المستشفيات بعد تماثلهم للشفاء. ومن إجمالي الحالات، فإن 3 حالات سجلت في ولاية البويرة و39 في البليدة وحالة واحدة في ولاية عين الدفلى و15 في تيبازة و15 في الجزائر العاصمة. وهنا ينفي مدير استغلال المياه على مستوى شركة سيال الفرنسية المسؤولة عن التوزيع في ولايتي العاصمة وتيبازة، سليمان بونوح، أن تكون المياه المنزلية تحتوي على بكتيريا الكوليرا، مؤكدا أن مياه سيال ذات جودة عالية وتطابق المعايير المعتمدة في هذا الإطار، وتخضع يوميا لمراقبات دورية من المنبع إلى غاية حنفيات الجزائريين، قائلا لـ"العربي الجديد": "لا نتحمل مسؤولية سوء الحفظ أو استعمال صهاريج ملوثة".


وفاة مدرب الملاكمة تكشف المستور

بصوت خافت جدا وحسرة كبيرة، يروي يوسف دحماني، شقيق مدرب المنتخب الجزائري للملاكمة عثمان دحماني، المتوفى بسبب وباء الكوليرا في أول أيام عيد الأضحى المبارك، تفاصيل إصابة أخيه عثمان بالمرض إلى غاية وفاته، ويقول: "لا نزال تحت وقع الصدمة، أخي عثمان رياضي معروف بخفته وحيويته، لم يشتكِ يوما من مرض، كيف يموت بهذه الطريقة؟".

ويضيف يوسف، الذي بدا غير مصدق لما حدث لشقيقه وهو يروي لـ"العربي الجديد" قصة الراحل عثمان مع الوباء: "أخي سمع عبر الهاتف أن صديقه مريض ومتواجد في مستشفى بوفاريك في ولاية البليدة وهو بحاجة إلى مرافق طبي، فانتقل للمستشفى وبقي معه لمدة يومين، وعند خروجه أحس بأعراض التعب والمرض".

يصمت يوسف للحظات ويواصل كلامه "أخي تعب كثيرا ولم نعرف السبب حتى جاءت الليلة المشؤومة ودخل فيها مستشفى بوفاريك في ولاية البليدة، ليلفظ فيها آخر أنفاسه". 
وفي البداية، لم تُعلم إدارة المستشفى العائلة عن سبب الوفاة، واكتفت بالتصريح بأن عثمان كان يعاني من مشاكل في القلب، "وقد تبيّن العكس يوم سُلم إلينا في صندوق ومُنعنا من رؤيته، وهناك تأكدنا أن سبب الوفاة هو وباء الكوليرا"، كما أضاف شقيق الراحل عثمان.



10 أيام من الشك

قرار غلق منبع سيدي الكبير لم يتجاوز الـ10 أيام، ليتم إعادة فتحه من جديد، فالإجراء كان احتياطيا، حسب إفادة قدّمها رئيس بلدية أحمر العين في تيبازة، نور الدين بوزويل، لـ"العربي الجديد".

ويقول رئيس البلدية، التي أصبحت على كل لسان في الجزائر بسبب شبهة الكوليرا "إنهم تلقوا مراسلة من محافظ تيبازة تؤكد أن بعض البؤر في المنبع تحتوي على جرثومة الكوليرا، وفقا لمخبر باستور الحكومي، الأكبر في اختصاص التحاليل، وهو ما دفع إلى الغلق المؤقت، إلا أن التحاليل المكررة أثبتت بعد تطهير المنبع سلامته، وهو ما عجّل بإعادة فتحه أمام سكان هذه القرية".


السكان ينتفضون

أظهرت الزيارة الميدانية التي قام بها معدّا التحقيق إلى بلدية أحمر العين التي يقطنها 30 ألف ساكن، وتحديدا إلى قرية سيدي الكبير خلال أيام الغلق، إصرارا من السكان على تكذيب الرواية الرسمية، إذ ينفون تماما تعرّضهم للكوليرا أو أي أعراض كالإسهال والرغبة في التقيؤ، رغم أنهم يستهلكون مياه المنبع بشكل يومي.

ويقول الحلاق عبد النور، 24 سنة، الحاصل على شهادة ماستر في علوم البيولوجيا وقاطن في قرية سيدي الكبير، إن الجيران لم يتعرضوا لأي إصابات بالكوليرا، مستغربا من تصريحات مسؤولي الصحة، بشأن احتواء منبع سيدي الكبير على الوباء.

من جهته، يؤكد الخمسيني مراد شابح أنه يقطن في الحي القصديري (منطقة عشوائية) على ضفاف منبع سيدي الكبير منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وهو وأفراد عائلته يشربون من مياه المنبع بشكل يومي، وجزم بأن هذه المياه سليمة قائلا: "جميعنا شرب من سيدي الكبير 30 دقيقة قبل ردمه من طرف مصالح البلدية، ورغم ذلك لم نتعرض لأي إصابة".



الكوليرا تربك المسؤولين

أذاعت وزارة الصحة الجزائرية، في بيان رسمي، يوم 5 سبتمبر الجاري، أن مياه وادي بني عزة، الذي يشق محافظة البليدة، هي مصدر فيروس الكوليرا. ويعيد مدير الوقاية في وزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات، سرد الوقائع بشكل مختلف، قائلا لـ"العربي الجديد"، إن تسجيل الوباء في البليدة لا ينفي وجود بكتيريا الكوليرا في منبع سيدي الكبير بمحافظة تيبازة، وهي المياه التي تبقى موجهة للشرب، وأكثر خطورة، على خلاف وادي بني عزة، الذي يعد، بحسبه، مجرى متدفقا يمر عبر عدة شلالات مائية.

ويوضح جمال فورار أن التحليل الأول الذي أجري على العينة المأخوذة من منبع سيدي الكبير، أثبت وجود البكتيريا، في حين استغرقت التحاليل الخاصة بوادي بني عزة، المزيد من الوقت، ليثبت في النهاية وجود جرثومة الكوليرا. وطمأن في المقابل بأن عملية تطهير هذه المجاري "سهلة، ولكنها تستغرق وقتا للقضاء على البكتيريا، ما يستدعي عزلا مؤقتا لهذه المجاري".

وهنا عاد زوبير حراث، مدير مخبر باستور، ليؤكد أنه تم إخضاع 30 عينة من المياه من منابع مختلفة للتحاليل، وتأكد وجود البكتيريا في بؤرتين فقط، وهما سيدي الكبير في تيبازة ووادي بني عزة في البليدة، أما بقية البؤر التي خضعت للتحاليل، وعددها تجاوز المائة، فكلها سليمة".

ولم يخفِ مدير مخبر باستور امتعاضه، في حديث لـ"العربي الجديد"، من الشكوك المثارة حول قضية تحاليل الكوليرا، داعيا المواطنين إلى مزيد من الثقة في مؤسسات الدولة الجزائرية، قائلا "العملية مستمرة والمراقبة متواصلة حتى بعد تطهير هذه المنابع".



خسائر مالية

يُحصي رئيس الجمعية الوطنية للتجار الجزائريين، الحاج الطاهر بولنوار، خسائر بلغت 30 بالمائة من مبيعات تجار الجملة في مجال الخضار والفواكه، بسبب ما أسماه "الإشاعة" التي رافقت انتشار الوباء في المحافظات القريبة من العاصمة الجزائرية، والتي تعتبر الأهم في الإنتاج الفلاحي على مستوى الجزائر.

وفي السياق ذاته، كشف رئيس فيدرالية تجار الجملة للخضار والفواكه، إسماعيل مجبر، لـ"العربي الجديد"، أن الدول المستوردة للخضار الجزائري، منها روسيا وبعض بلدان الخليج، باتت تطلب شهادة مطابقة وتحليل خلو المنتج الجزائري من وباء الكوليرا، بالرغم من أن تحاليل مخبر باستور أكدت أن البطيخ الجزائري وكافة الخضار والفواكه غير ناقلة للوباء، الأمر الذي يؤكده مدير معهد باستور جازما باستحالة انتقال جرثومة الكوليرا عبر الخضار والفواكه، لكنه بالرغم من ذلك ينصح بغسل الخضار والفواكه جيدا وإضافة مادة معقمة.