التفكّك العربي وسردية صحافي أميركي

18 سبتمبر 2016
+ الخط -
يلفتك التحقيق للسارد والصحافي المهم، الأميركي سكوت أندرسون، فعلى مدى ثمانية عشر شهراً، وعبر تطواف شمل مصر والعراق وكردستان وسورية وليبيا، أنجز تحقيقاً نشرته صحيفة نيويورك تايمز، بعنوان "كيف تفكّك العالم العربي؟"، مزج فيه بين العمل السردي والاستقصاء الصحافي في أسلوب شائق لأبعاد التفكّك العربي، ابتداءً بجذور التمزّق، وصولاً إلى غزو أميركا للعراق، وهبوب رياح الربيع العربي، وانتشار وباء تنظيم داعش ومفرداته الراعبة، ومأساة اللاجئين، العراقيين والسوريين. وتناول التحقيق جذور الثمار الكريهة للحرب العالمية الأولى، وتمزيق بلاد الرافدين أو ما بين النهرين، سورية والعراق وشرق الأردن.
لا يتحدّث أندرسون، هنا، عن فلسطين، وهي "كعب أخيل" في تحقيقه المهم. وبكل تأكيد، فإن اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا العام 1916 كانت من البدايات المبكرة للتفكّك، أو بالأحرى لـ "التفكيك"، ويليها مباشرة وعد بلفور بوطن "قومي" لليهود عام 1917، وهو ما لم يشر إليه أندرسون، كما يذكر احتلال إيطاليا ليبيا. ولا يشير إلى نكبة العام 1948، وهي أخطر كارثة تعرّض لها الوطن العربي، وترتب عليها ونجمت عنها حروب وصراعات شكلت الجانب الأهم في المشهد الكارثي الحالي.
الملمح المهم في سردية سكوت أندرسون أسلوب ترميزه بست شخصيات من مصر والعراق وسورية وكردستان، وكلها من الطبقة الوسطى ومن الفئات المستنيرة التي رفضت الديكتاتورية الشائهة، وانخرطت في تيار الربيع العربي، بوصفها تعبيراً مكثفاً عن الأمة العربية، أو الشرق الأوسط في تسمية الصحافي التي كان قد انتقدها ساطع الحصري قبل أكثر من نصف قرن.
يقف أندرسون طويلا نسببياً إزاء تجربة جمال عبد الناصر في مصر وحزب البعث في سورية والعراق وانقلاب معمر القذافي في ليبيا، مركّزا، ومعه كل الحق، على غياب روح الديمقراطية، ومظاهر الجمود والتحجر في الحكم الذي استعصى على التغيير في هذه البلدان، مع بعض الإنصاف لتجربة عبد الناصر، والحالة المصرية بصورة عامة؛ آتياً على حالة البطالة والفقر والفساد والاستبداد واستئثار أقلوية لها طابع أسري أو ديني أو حزبي على الحكم، وستصل السيطرة حتى على الوظيفة العامة؛ فالمراكز الرئيسية من نصيب الحزب الأوحد، ويتولى المدير العام الوصاية على تعيين المراسلين، حسب إلماحة المحقق الذكي.
من خلال الشخصيات الساردة الست، الدكتور عازار من كردستان العراق، وخلود الزيدي من
العراق، وليلى سويف من مصر، ومجدي المنغوش من ليبيا، ومجد إبراهيم من سورية، وكاظم حسن من العراق، تتألف من سردهم لوحة البلدان المصابة بوباء التفكّك؛ فمصر حجر الزاوية، يجرى التركيز فيها على العدو الخارجي لتوجيه الغضب ضد الخارج الصهيوني، الأميركي، الأوروبي، والرجعي العربي أيضا، ويبطل أنور السادات هذه اللعبة، بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، وبهامش محدود للمعارضة السياسية، بحيث لا تمتد جذورها إلى الشعب، ويرى أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية أفسدت اللعبة بانخراط الشارع المصري في دعمها. والحقيقة أن الانتفاضة الأولى التي انطلقت في ديسمبر/ كانون الأول 87 هي البداية الحقيقية لإبطال الرهانات الخاسرة على كل الاتفاقيات والمساومات والتخلي عن الأوهام، وكانت بسلميتها البداية الحقيقية للربيع العربي، فيما نقطة الضعف في الثانية العسكرة والانجرار إلى العنف، ميدان التفوق الإسرائيلي.
يأتي المحقق على فساد نظام مبارك وجنوحه إلى التوريث واللعب بورقة الإخوان المسلمين، فزّاعة لإخافة أميركا والغرب، مشيراً إلى أن الديكتاتورية والفساد والجمود والعطالة والفقر هي القاسم الأعظم والمشترك بين تيارات الربيع العربي في المنطقة كلها.
يركّز السارد على غزو العراق نقطة تحول مهمة في ليل الانهيار. ويقيناً فإن ذلك الغزو، وكذا طريقة إعدام صدام حسين، وإلغاء الجيش والأمن العراقيين، وتجريم حزب البعث واجتثاثه من الحياة العامة والوظيفة، وهو ما طاول مئات الآلاف، وأضيف تدمير الكيان العراقي بالتواطؤ مع إيران، وتغذية الفتن الطائفية والإثنية والعرقية، والدفع بها إلى المواجهة، كلها عوامل مهمة في الانهيار والتفكّك. وقد أسهم اشتراك جيشي مصر وسورية، والتمويل الخليجي لهذه الحرب الاستعمارية في التعجيل بالانهيار، وذلك في ردٍّ على جرائم نظام صدام.
ويرى أن القذافي وحده من أدرك أن القاعدة من سيخلف صدام. إحساسه بالخطر الداهم هو ما أشعره بخطورة الآتي. والواقع أن هذه التيارات الجهادية والإرهابية حصيلة التعليم الطائفي المعادي للعلم ولروح العصر. وقد أسهمت حرب أفغانستان في تقوية هذه الاتجاهات، ولعبت أميركا والأنظمة العربية التابعة والتمويل الخليجي في الدفع بالآلاف إلى هذه الحرب. وكانت البداية الحقيقية لظهور هذه التيارات التى جرى (ويجري) توظيفها، في العراق وسورية وليبيا وتونس والجزائر واليمن، وقد وظفها القذافي نفسه ضد تونس والجزائر والفيليبين وغيرها.
التحقيق مستقص وواسع، الجانب الأهم فيه هو الإشارات إلى الإرث الاستعماري: البريطاني، الفرنسي، الإيطالي، وأخيراً الأميركي، في اصطناع الكيانات القطرية، والحدود الاصطناعية، والزعامات الزائفة، والجمود حد التحجر، والفساد والاستبداد، والطبيعة الأسرية والقبائلية والطوائفية للحكم العربي كله، جمهوريا وملكياً. ولعل أخطر ما في التحقيق إشارته إلى أن بعض الكيانات قد لا تمتلك القدرة للعودة كياناً، وتحديداً سورية والعراق، وقد نضيف ليبيا واليمن إذا ما استمرت الحرب فيهما.
2256160C-6818-4899-B456-40DAD5F2B2CB
عبد الباري طاهر

كاتب ومثقف وصحافي يمني، من رواد الصحافة في بلاده، مواليد 1941.