التغوّل الكردي و"سايكس- بيكو"

26 نوفمبر 2015

مقاتلون أكراد خلال اشتباك مع القوات التركية في دياربكر(28سبتمبر/2015/Getty)

+ الخط -
يعيش الأكراد، بشكل أساسي، في أجزاء من شمال شرق العراق وشمال غرب إيران وشمال شرق سورية وجنوب شرق تركيا، كما يوجدون بأعداد قليلة في مناطق من جنوب غرب أرمينيا، وأجزاء من أذربيجان، ويقدر إجمالي أعداد الأكراد في العالم بحدود 40 مليون نسمة.
وعلى الرغم من كل ما أفرزته الحربان العالميتان، الأولى والثانية، من ظهور حدود لدول وغياب لأخرى، لم يستطع الأكراد لملمة شتاتهم، وإقامة دولةٍ، بشكل أو بآخر، باستثناء محاولة أكراد إيران (8-10 مليون نسمة) إنشاء جمهورية مهاباد عام 1946، في أقصى شمال غرب إيران، حول مدينة مهاباد التي كانت عاصمتها فترة قصيرة، ولم تدم أكثر من 11 شهراً.
وعلى الرغم من أن أكراد العراق منحوا الحكم الذاتي في مارس/ آذار 1970 في اتفاقية بين الحكومة العراقية وزعيم التمرّد الكردي، الملا مصطفى البارزاني، اعترفت الحكومة العراقية فيها بالحقوق القومية للأكراد، مع تقديم ضمانات لهم بالمشاركة في الحكومة، واستعمال اللغة الكردية في المؤسسات التعليمية، على الرغم من ذلك، كان أكراد العراق الأكثر تقاطعاً مع حكومة بغداد، وكانوا سبباً في استنزاف الإمكانات العراقية البشرية والمالية والسياسية عقوداً كثيرة.
وبعد احتلال العراق عام 2003، والأحداث في سورية بعد 2011، وفي تركيا بعد الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران 2015، وتمكن حزب الشعوب الديمقراطي، الكردي، من تجاوز الحاجز الانتخابي، بحصوله على 12.3٪ من الأصوات، ليكون بذلك أول حزب سياسي كردي يدخل البرلمان في تاريخ تركيا، أفرزت كل هذه المتغيرات نزوعاً قومياً كردياً نحو تأسيس حلم "الدولة الكردية".
قادت أربيل، ضمناً وعلناً، التحرك الفعّال نحو تنفيذ مشروع الدولة، مستفيدة من المزايا الاقتصادية التي وفرتها لها الظروف المتميزة التي باتت عليها بعد احتلال العراق، ومنح المحتل الأميركي خصوصية في التعامل مع القيادات الكردية، ثم بعد تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية من بسط سيطرته على مساحات ومدن رئيسية في شمال العراق وشرق وشمال شرق سورية، وضعت الأكراد في واجهة القوى التي يمكن أن تشكل القوى البرية المستفيدة من الضربات الجوية لطائرات التحالف الدولي.
تحوّل الأكراد من واجهة المظلومية التي كسبوا، من خلالها، تعاطف بعض القوى العالمية، إلى
أداة فاعلة منظمة، ومتحكمة بمقاليد الأمور، في غياب الحكومتين المركزيتين في بغداد والشام أو ضعفهما، فبدأت في الحصول، أولاً، وبطرق غير مشروعة، وباستخدام القوة المسلحة، ومعونة طيران قوات التحالف الدولي، على أراض ومدن ومناطق حيوية في كركوك والموصل وديالى، كان من أبرزها حقول النفط الغنية الرئيسية، وآخرها قضاء سنجار الاستراتيجي.
وفي سورية، مد إقليم كردستان العراق يده بقوة لصالح تكوين قوة كردية ضاربة من أكراد سورية والعراق، بدءا من معارك عين العرب – كوباني، وانتهاءً بتشكيل قوات "سورية الديمقراطية" التي تم تطعيمها بعدد قليل من العرب، لتبدو وكأنها قوة عربية كردية، فيما استقبل الإقليم قيادات حزب العمال الكردستاني التركي، واستطاع أن يلاعب الإدارة التركية في موضوعة العلاقة بينهما، في ظل تناقضات الموقف في جنوب الأناضول.
سهلت المتغيرات الكبيرة التي أحدثها تنظيم الدولة على خارطة القوى في العراق وسورية، إلى حد كبير، تمكين الأكراد من بسط نفوذهم على الأرض، في هذين البلدين، بشكل رسمي، وبمساعدة كل القوى العالمية، وبالشكل الذي أظهر الأكراد كأنهم القوة المنظمة الوحيدة التي استطاعت، أو تستطيع، مقاتلة تنظيم الدولة، وتحقيق الانتصار عليه، بعكس الجيشين المتهالكين، العراقي والسوري.
حجم البشاعات التي ارتكبتها القوات الكردية في مدن العراق وسورية، المحررة من تنظيم الدولة، ومنعها عودة المواطنين العرب إلى مناطقهم، وتهديم دورهم وممتلكاتهم، يمثل جنوحاً أخلاقياً، وتجاوزاً على كل القيم والأعراف الوطنية للبلدين، وللأعراف والقوانين الدولية، لكن القيادات الكردية، وبتوافق تام مع القوى العالمية الكبرى وإسرائيل، ماضية في تحقيق منهج (الاجتثاث العربي)، من خط سير مشروع الدولة الكردية الكبرى التي يفترض أن تمتد من حدود الإقليم مع إيران حالياً، وحتى البحر الأبيض المتوسط.
تغوّل أكراد العراق وسورية في غياب تام للسلطة المركزية فيهما، ووسط حالة مريبة وغريبة من اللامبالاة العربية وجامعة الدول العربية والتحفظ التركي والتأييد الإيراني الهادف إلى إيجاد دولة تشكّل حاجزاً جغرافياً وسياسياً بين تركيا والمحيط العربي، إضافة إلى مزايا كثيرة ستتحقق لإسرائيل.
يفضي السلوك الذي تتبعه القوات الكردية، بمسمياتها المختلفة، في نهاية المطاف، إلى فرض (دولة الأمر الواقع) على الجميع، بالشكل الذي لن يسمح العالم بعده بالمساس به، أو محاولة إرجاع الواقع إلى ما كان عليه قبل ذلك، تلك (الدولة) تحديدا ستكون أول متغير حقيقي وفعلي، على جغرافيا المنطقة، في الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس – بيكو.
F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن