التعليم المنزلي اللامدرسي.. الجدوى والدوافع والنتائج

01 أكتوبر 2014

أميركا تتصدر الدول في عدد المتعلمين منزلياً (1مايو/2014/Getty)

+ الخط -
بعد ما يزيد على مائة عام على انتشار المدارس النظامية الرسمية، تتصاعد دعوات، اليوم، إلى طرق تعليمية، بعيدة عن نمط المدرسة الحديثة، ويفند أصحابها سلبيات منظومة التعليم الحديثة وعيوبها، وتقوم الدعوات، في جوهرها، على العودة إلى الوسائل الأكثر مرونة، وكانت متبعة قبل تقديم منظومة التعليم الرسمي حلاً مهيمناً، وإجبارياً، في أحيان كثيرة.

ولبناء رأي تجاه فكرة التعليم الموازي، أو اللامدرسي، ينبغي التعرف على الفكرة الجوهرية لهذا النمط من التعليم ووسائله ومناهجه، ودوافع اللجوء إليه، بالإضافة إلى التحفظات والملاحظات السلبية تجاهه، خصوصاً أنه بدأ يلاقي قبولاً أكثر في الدول النامية، وبدأت تجارب ناشئة في دول عدة، مثل جنوب أفريقيا والإمارات العربية المتحدة ومصر.


أميركا أولاً

وتتصدر الولايات المتحدة الدول في عدد الأطفال المتعلمين منزلياً، فبحسب إحصائية لوزارة التعليم الأميركية، بلغ عددهم في عام 2008 مليونا ونصف مليون طفل. كما تعترف الدولة ومعظم الجامعات بهذا النمط من التعليم، وله تشريعات وقوانين تنظمه تختلف بحسب كل ولاية. وتفيد دراسات وإحصاءات بأن الأطفال المتعلمين منزلياً استطاعوا منافسة زملائهم المتعلمين مدرسياً، في التحصيل الأكاديمي بجدارة، ووجدت ساندرا مارتن تشانج، الحاصلة على دكتوراه في علم النفس والباحثة في جامعة كونكورديا، في دراسة أجرتها عام 2011 في كندا، أن الأطفال المتعلمين منزلياً تفوقوا على أقرانهم المتعلمين مدرسياً بواحد إلى أربعة مستويات دراسية.

وكانت الدعوات إلى حركة تعليم لامدرسي، في الولايات المتحدة، قد بدأت في الستينيات، عندما دعا رجل الدين والفيلسوف الأميركي، روساس جو رشدوني، إلى حركة تعليم منزلي في مواجهة التعليم الحكومي العلماني، وعارض بشدة تدخل الدولة في منظومة التعليم. وتزامن مع دعوته بدء الزوجين، رايموند ودوروثي مور، أبحاثهما بشأن الفاعلية الأكاديمية للتعليم الرسمي المبكر، أي لسن ما قبل ثماني سنوات. وأكدت دراساتٌ تضمنت مراجعة لأكثر من 8000 بحث، يخص التعليم في الطفولة المبكرة، أن التعليم المدرسي المبكر لا يترك الأثر المرجو في الطفل، بل يعرقل نموه العقلي والعاطفي، وأنه من الأفضل مكوث الطفل في المنزل، وقيام الأبوين بمهمة تعليمه، حتى سن ثماني سنوات. وفي السبعينيات، رأى المعلم جون هولت أنه لا يمكن إصلاح المنظومة التعليمية الرسمية، وأن عيوبها جوهرية، ولا بد من نقض المنظومة ككل، كما دعا إلى عدم استنساخ بيئة التعليم المدرسي في البيت، بل إيجاد بيئة مغايرة تماماً، يكون التعلم فيها نابعاً من داخل الطفل، متماشياً مع ميوله. واليوم، تؤتي هذه الدعوات والجهود في أميركا ثمارها بتزايد مستمر في أعداد الأطفال المتعلمين تعليماً لامدرسياً، على اختلاف دوافع آبائهم.


مناهج وأساليب

وقد يظن بعضهم أن التعليم اللامدرسي هو الإتيان بكتب المدرسة ومذاكرتها وحفظها في المنزل، كنظام تعليم "المنازل" في مصر، وهذا ليس مطابقاً تماماً للفكرة الجوهرية للتعليم اللامدرسي الذي يقوم، في مضمونه، على فلسفة التعلم، وليس التعليم، أي أن تكون علمية تعلم الطفل نابعة من ميوله وموافقة لشخصيته، يتمتع فيها الطفل بمرونة كافية لاستكشاف رغباته العلمية، والتركيز على المجالات التي يبرع فيها، ويحرز التقدم بسرعةٍ تناسب استيعابه وقدراته، ما يعني، إجمالاً، تهيئة العملية التعليمية، بما يناسب الفرد، وليس إجبار الفرد على التكيف مع العملية التعليمية، كما الحال في المنظومة المدرسية، فحتى إذا اختار الأبوان تدريس المناهج المدرسية، فإن عليهم التحلي بتلك الروح التي تعلي من قيمة التعلم بعمومه، وليس التعليم.

أطفال فلسطينيون في قطاع غزة (5 ديسبمر/2013/أ.ف.ب)


وتتبع الأسر التي اختارت هذا النمط أساليب مختلفة، فهناك عدة مناهج رئيسية، يتعرف عليها الآباء والأمهات، عند قرارهم تعليم أطفالهم تعليماً لامدرسياً، منها المنهج التقليدي، بأن تحضر الأسرة المناهج المدرسية، وتقوم بدريسها في البيت بأسلوب وتناول يختلفان عن أداء المدرسة، ويعتمد فيهما الأبوان على الامتحانات، وكتب الأسئلة المصاحبة للكتاب الأساسي، في تقييم تحصيل الطفل. أو قد يسجل الطفل في مدرسة، ويذهب إليها وقت الامتحان. وهناك، نظام الوحدة، أي أن يستكشف الأبوان ميول طفلهما، ويحاولان دمج ما يحبه في كل مجالات الدراسة، فيستثمران ميوله هذه، لإثارة اهتمامه في المجالات الأخرى. فإذا كان الطفل الصغير، مثلاً، يعشق القطارات والعربات، سيشجعه والداه على قراءة كتبٍ عن القطارات، وسيتعلم مفاهيم الحساب الأساسية باستخدام لعب القطارات والعربات والكتابة وصياغة الجمل بمواضيع، تتحدث عنها أيضاً، وعمل أنشطة وحرف يدوية فيما يخص اهتمامه أيضاً، ويتغير موضوع الوحدة، كل فترة، حتى يغطي الطفل مجالات ومفاهيم مختلفة في أثناء الدراسة.

وهناك، من اتجه إلى طرقٍ أكثر راديكالية، مثل اللامنهج أو التعلم الطبيعي، والذي يعتمد على الطفل تماماً، وتترك له الحرية في تعلم ما يريده، في الوقت الذي يريده، ويكون دور الأم والأب الدعم وتوفير الأدوات اللازمة لمتابعة ذلك الاهتمام، فإذا أبدى الطفل اهتماماً بموضوعٍ ما، سارع الأبوان لجلب الكتب المتخصصة، وليست المخصصة للطلبة التي تتحدث عن هذا الموضوع، وترتيب الرحلات اللازمة للاستكشاف، أو ترتيب موعد للطفل مع أحد المحترفين في المجال الذي يبحث فيه، إن لزم الأمر. وبالتالي، يصبح التعلم أسلوب حياة وعملية دائمة مستمرة، ليست مرتبطة بجداول وامتحانات واستمارات تقييم، بالإضافة إلى مناهج أخرى، اكتسبت شعبية، وأصبحت هناك مدارس خاصة، تتبنى التدريس بها، مثل نظام المونتسوري ونظام فالدروف، ومناهج تركز، في جوهرها، على الجانب الديني.


يحدث في مصر

وفي مصر، تصاعدت الدعوات إلى اللجوء إلى هذا التعليم، بعد أن أصبح جلياً، في السنوات الأخيرة، مدى تدهور منظومة التعليم، وهو ما يلمسه أغلب من يحتك بتلك المنظومة، سواء طلاب أو أمهات وآباء أو أساتذة، كما أن تقارير تؤكده، فقد جاء تقرير التنافسية العالمية لعام 2013 - 2014 صادماً، إذ حضرت مصر في المرتبة الأخيرة في العالم في جودة التعليم الأساسي، بترتيب 143.

وفي المقابل، تزايدت الأسئلة عن مدى جدوى اللجوء للتعليم اللامدرسي، في دولة لا تعترف رسمياً به، وبالتالي، النقص الشديد في العوامل المساعدة للآباء والأمهات على هذا الطريق الصعب.

وبالبحث في التجارب الناشئة في مصر، وبسؤال متحمسين للتعليم اللامدرسي عن أهم دوافع الأبوين، لاتخاذ هذا القرار، وتحمل هذه المسؤولية الكبيرة، نجد أن أهمها تدهور البيئة التعليمية في المدارس، واعتقاد الأبوين أن في وسعهم تقديم تعليم أفضل في البيت، يناسب شخصية أطفالهم واهتماماتهم. كما أن الأسباب الدينية والأخلاقية دافع كبير، حيث يعتقد عديدون أن البيئة الأخلاقية للمدارس لا ترتقي بأولادهم، بل تروج طرق الانحراف، وتدفع أيضاً دواعي السفر أسراً عديدة لتبني نمط التعليم اللامدرسي لمرونته.

لوحة زيتية لـِ"أنجيلو تريزيني" (1851)

وتوضح الباحثة وفاء رفعت البسيوني، صاحبة كتاب "مصر بلا مدارس"، أن التعليم المنزلي يعتبر حلاً ممتازاً للأطفال الذين يعانون من تأخر أو صعوبات في التعلم، ويناسب الأطفال الذين يتمتعون بمستوى ذكاء عال، لأنه يعتبر الطفل محور العملية التعليمية، وليس المعلم أو المنهج، كما في التعليم المدرسي. وبسؤالها عن كيفية تخطي العقبات، خصوصاً أن الدولة لا تعترف بالتعليم المنزلي، ولا تضع له قوانين، تقول: "المشكلة أن الدولة تجهل تماماً وجود هذا التعليم، ولا تبيحه ولا تجرّمه، هي لا تدري بوجوده من الأساس، وهذا يصعّب المهمة، فيلجأ آباء وأمهات، حالياً، إلى تسجيل أبنائهم في المدرسة بنظام المنازل، أو استخراج شهادات مرضية، لكي لا يذهب الأطفال إلا في امتحانات آخر العام. ولكن، لهذا الالتفاف آثاره الجانبية، والأفضل بذل مزيد من الجهود في السعي إلى اعتراف الدولة به، حتى تتاح للآباء بيئة صحية، لتعليم أطفالهم بالطريقة التي ارتضوها".

وتكتب أم عبد الله، وهي أم مصرية لثلاثة أطفال، وتعيش خارج مصر، في مدونتها "سوبر حوا"، إنها بدأت التعليم اللامدرسي لأبنائها بتحفيز من جارتها التي لها ابن في عمر ابنها، واتفقا على تبادل الخبرات وتقسيم المواد بينهما. وعندما وصل ابنها الأكبر إلى سن المدرسة، ألحقته بمدرسة خاصة في مصر سنتين، فزادت قناعتها بجدوى التعليم اللامدرسي. وأهم الأسباب التي أعادتها إليه قناعتها بأن الأخلاقيات في بيئة المدرسة صارت منحدرة، فالمعلمة تشتم دائماً، وأخلاق التلاميذ في انحدار، كما أن المدرسة، بوقتها الطويل وواجباتها وامتحاناتها، أصبحت تستهلك أطفالها طوال العام، وضغط الامتحانات المستمر يفرض عليهم أسلوب الحفظ والبصم لمواكبتها. وعن مدى مساحة الحرية التي تجدوها في تدريس أطفالها منزلياً، خصوصاً أنهم يتبعون النظام المصري، ويلتزمون المناهج المصرية، وهي جزء من أزمة التعليم في مصر، توضح أم عبد الله أن هناك صعوبات فعلية في الالتزام بالمنهج المصري، بكثرة تناقضاته، لكنها وزوجها يعوضان ذلك بتدريسه لأبنائهم بوسائل ممتعة، كالأفلام الوثائقية والأعمال اليدوية، وأيضاً بالإشارة إلى التناقضات الموجودة، ما يعلمهم التفكير النقدي لما يتلقونه. وأضافت "في الإجازة الصيفية، يتبنون منهجاً مختلفاً للتعليم، يتمتع بمزيد من الحرية، يتضمن مزيداً من الرحلات الميدانية".


تحفظات

وتتركز التحفظات على التعليم اللامدرسي في تأثر الحياة الاجتماعية للطفل سلباً، بسبب قلة اختلاطه بالأقران، لعدم وجود مجتمع المدرسة، ما يؤثر على نموه الاجتماعي، ومواكبته المجتمع الذي يعيش فيه. وإذا كان أحد الدوافع الأساسية في الاتجاه إلى التعليم اللامدرسي الحفاظ على أخلاقيات أو مستوى معين من التدين، فإن اختبار الطفل أخلاقياته وقيمه، في مجتمع متنوع ومختلف، يعد بأهمية زرع تلك القيم في ضميره، كما يرى بعضهم أن من مسؤوليته الأخلاقية تجاه المجتمع بث القيم الفاضلة، بزرعها في نفوس أولاده، وجعلهم يختلطون بالمجتمع لنشرها.

وتشير أمهات إلى دوافعهن باتجاه تعليم أبنائهن منزلياً، ولا مدرسياً، ومنها عدم كفاءة المدرسين والمناهج وسوء أخلاق الزملاء وظاهرة إقحام الأطفال في المدارس في السياسة، غير أن أمهاتٍ عديداتٍ يتحفظن على الفكرة، لأنها تحتاج إلى مجتمع يتمتع برفاهية ومستويات معيشة أعلى، حتى يكون لدى الأم الوقت والجهد الكافيين، وهو ما لا يتوفر كثيراً في مجتمعاتنا العربية التي تعاني ظروفاً معيشية قاسية، أو على الأقل غير مرفهة، تضطر فيها الأم أحياناً كثيرة إلى العمل، وتحمّل مزيد من الأعباء، بدلاً من استئجار من يقوم بها، وبالتالي، فإن تحميلها مزيداً من الأدوار، يكاد يكون مستحيلاً.

ولكن، يجمع أغلب المختلفين مع فكرة التعليم اللامدرسي على ضرورة الاستفادة من تجارب الأسر التي تعلم أطفالها منزلياً، ومحاولة أخذ ما يناسبهم منها من أنشطة وتجارب، بالتوازي مع التعليم المدرسي. وسواء اتفقنا، أو اختلفنا مع الفكرة، لا يمكن إنكار أنها طريقة جادة ومختلفة لمقاومة واقع سيئ نعايشه، وقد تفتح تلك الجهود المجال مستقبلاً لاعتراف الدول بوسائل أخرى للتعليم، غير التعليم المدرسي، وتكسر هيمنة السلطة على العملية التعليمية، خصوصاً أن مجتمعاتنا العربية تمر، فعلياً، بمرحلة تحولات جذرية، وسيظل التعليم ومشكلاته في قلب هذه التحولات.

31C967B2-4868-427B-A982-41C635C1DA0D
حبيبة حسن

باحثة ومترجمة مصرية، شاركت في إنجاز عدة أبحاث لأفلام وثائقية، ولها مقالات منشورة بالعربية والإنجليزية.