التعليم الخاص وسلامة المجتمعات

26 يناير 2019
+ الخط -
تطرّق الكاتب البريطاني جورج أورويل، في روايته "ابنة القس"، عام 1935، إلى سقطات التعليم الخاص، وصوّرها بدقةٍ متناهيةٍ عبرَ شخصية دوروثي، بطلة الرواية، الفتاة التي تنشأ في كنف عائلة متنوّرة (والدها رجل دين مسيحي)، وتهرُب من بيت أبيها وتحطّ في أماكن متفرّقة، لينتهي بها الأمر إلى أن تعمل في مدرسة خاصة في إحدى ضواحي لندن.
وعلى الرغم من خوف دوروثي من هذه التجربة، وشعورها بالمسؤولية إزاءها، حيث لم يسبق لها أن تلقّت تعليماً يخوّلها العمل مُدرِّسةً، إلا أنها تُفاجأ بأن البنات اللاتي طُلب منها تعليمهن جاهلاتٌ بأدنى قواعد العلم، ولا يملكن من الثقافة العامة خصلة.
عبرَ شخصية البطلة، يصوّر الكاتب فلسفة التعليم الخاص، والذي يفتقر كثير منه للأصالة، ويركّز على المظاهر الفارغة، وكيف يتحوّل أهالي الطلاب في هذا النوع من التعليم إلى ببغاوات بُلَهاء، لا يهمّهم سوى سماع المديح والثناء عن أبنائهم الذين هم في الواقع لا يفقهون من العلم شيئاً.
تركّز إدارات هذه المدراس، ولا سيما غير الخاضعة منها لرقابة الدول، على المال فقط، فتتحوّل تجارةً خالصةً مجرّدة من أيّ توجيه تربوي، أو تحريض إبداعي، فضلاً عن دورها في تجذير الفوارق الطبقية وتهشيم المجتمع، وتقسيم وعيه.
أدركَ الغرب، في وقتٍ مبكّر، أهمية التعليم، ودوره في بناء ضمير الإنسان، ومن ثمّ المجموعات البشرية المتحضّرة، فنشءٌ لا يعرف إلا تعليماً احترافياً واحداً وحده القادر على الانسجام مع ذاته ومستقبله، والنهوض بالمجتمع. لذا سعى الغرب جاهداً إلى إعداد المدرسة/ الجامعة العامة أحسنَ إعداد، ولم يترك مجالاً لمنافسة الخصخصة التعليمية، لجودة ما يقدّمه أولاً، ولتبعية الخاص للعام ثانياً.
في ما يتعلق بالشق الأول (الجودة)، بلوغ هذا الشرط مرتبطٌ بالسياسات الاقتصادية للدول التي تنفق أموالاً مهولةً على التعليم العام. ولذلك يكون من الصعب على المال الخاص المنافسة، فنجد المدرسة الخاصة في معظم الدول المتقدمة بديلاً عن المدرسة العامة في الحالات الاستثنائية فقط، ونسبتها قليلة جداً. وبذلك تسود العدالة التعليمية بين جميع الطلاب. على سبيل المثال، يرتاد نجل الحاكم الهولندي المدرسة نفسها التي تستقبل اللاجئين السوريين، ما يرسّخ العدالة الاجتماعية، ويوحّد المنهج.
الأمر مشابه في ألمانيا، فالمدارس الخاصة قليلة، وتؤدي وظيفةً مماثلةً للمدارس العامة، وتحتاج 
إلى اعتراف رسمي بها لكي تتمتع بصلاحية إجراء الامتحانات ومنح شهادات، وهو ما يخصّ الشرط الثاني المرتبط بخضوع المدفوع لنسق التعليم العام، وبالتالي تحقيق المعادلة. أما عن الدول الأولى في التعليم، ومنها اليابان (تتصدر قائمة أفضل الدول تعليماً)، فمعظم المدارس والجامعات في كل المراحل عمومية، ويكاد التعليم الخاص في المرحلة الأولى (الابتدائية) يكون معدوماً.
التعليم مرآة المجتمعات، ويعكس سلامتها. وبالنظر إلى العالم العربي، نجد أن التعليم الخاص، ومنذ ظهوره في معظم تلك الدول أواخر القرن الماضي، في ازدياد مضطرد، ومردّ ذلك فتح الأخيرة الباب أمام رؤوس الأموال الصغيرة للاستثمار في التعليم، مستفيدةً من خفض الدعم المخصّص له. علاوة على عوامل كثيرة أخرى مرتبطة بالفساد، ما أفضى إلى تحوّل هذه المدارس إلى "تجارةٍ" احتكرتها الطبقات المقتدرة، أو المقرّبة من السلطات، أو الاثنتان معاً، ومورس فيها أسلوب إداري رديء، ذلكَ أن هذه المدارس لا تخضع دائماً لشروط التعليم العام، وتُراعى فيها معايير خاصة، ما كرّس التفرقة على صعد التنشئة والفرص والتوظيف.
ويمكن اختصار حال مدارس خاصة في عالمنا العربي ودول العالم الثالث كما وصفه أورويل في روايته: "يقول رجل أعمال بغيض، صغير الحجم، لزوجته في صباح ما: خطرت لي فكرة يا إيما! ما رأيك أن نفتح مدرسة، ها؟ تدرّ المدارس سيولة كثيرة كما تعرفين، ولا يشبه العمل فيها عمل الدكان أو الحانة. بالإضافة إلى أنكِ لا تخاطرين بشيء، وليس هناك أي شيء غامض تقلقينَ منه، ما عدا عدد قليل من المناضد والألواح".
حصر نتائج صعود التعليم الخاص بتراجع المجتمعات أو تقدّمها رؤية تفاؤلية نوعاً ما، ذلكَ أن استشراء هذه الظاهرة في العالم العربي وجغرافيا الثورات ستكون له آثار كارثية على مستقبل الأجيال (تراجع فرص الفقراء في التعلّم)، وهو حق أقرّه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الـ26 "لكلِّ شخص الحق في التعليم، ويجب أن يُوفّر التعليم مجاناً، على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية"، وبالتالي المزيد من انتهاك حقوق الإنسان.
FF2934CD-C150-4581-A69B-BE911C347712
FF2934CD-C150-4581-A69B-BE911C347712
آلاء عوض

(كاتبة سورية)

آلاء عوض