التعايش في حضرة الفقيه

29 سبتمبر 2014

أصبحت الطائفية أحداثاً يومية في الحياة من حولنا (Getty)

+ الخط -

وأنت تجول بخاطرك في بلايا المشرق العربي العديدة والمتراكمة، لن تستطيع أن تتجاوز بلاء الطائفية الذي قد يعيد تشكيل المنطقة من جديد. أصبحت الطائفية أحداثاً يومية في الحياة من حولنا في هذه المنطقة، أصبحت كراهيةً وتحريضاً وعداوة وتحزباً سياسياً، أصبحت تفتيتاً وتهجيراً وقتلاً. المعاصرة تُفقدنا الشعور بجسامة هذه اللحظة من تاريخنا وتأثيرها على ما بعدها. "كثرة المساس تُميت الإحساس"، لذلك، قد نفقد الشعور بنيران الطائفية من حولنا، مهما أحرقت.

على الرغم من عدة عقود من ظهور الدولة العربية الحديثة وقيام الوطنيات وكل مشاريع التحديث ونشر التعليم واشتغال المفكرين، على الرغم من ظاهرة الاستقلال الوطني وولوج عصر الحداثة السياسية، إلا أن شفرة الطائفية استعصت على الحل، ومظاهر هذه الطائفية ما إن تخبو في المجتمعات العربية، حتى تعود لتنفجر وكأنها في أدنى حالاتها ليست إلا جمراً تحت الرماد وليست إلا ناراً كامنة.

بدل التحكم في التنوع المذهبي في المنطقة العربية، كما تحكمت فرنسا الناشئة، مثلاً، في ظاهرة تنوع اللهجات واللغات على أرضها من خلال الفرنسة، تحكم هذا التنوع المذهبي في مصير المنطقة، وأخذ يُدحرجها للتفتت والاقتتال واستدعاء التدخل الأجنبي، وربما تقسيم المقسم.

في عهد دولة الاستقلال، اشتغل مثقفون عرب، ومعهم أدوات الدولة الحديثة في الأقطار العربية، على الدفع بهذه المجتمعات إلى المأمول، تم العمل على التغلب على عوامل كثيرة في الواقع، كالطائفية والقبلية والطبقية... وامتلأ خطاب المثقفين والأحزاب والحكومات، أيضاً، بعبارات مثل التحرر والحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة... وظهر لذلك علمانيون وماركسيون وقوميون وإسلاميون. وحاول مفكرون عرب طلب المدد من التراث، وجعل تراث العرب مليئاً بجذور الأفكار والدعوات التي ظهرت في الحداثة.

كان زمام المبادرة كل هذا الاشتغال الفكري والعمل السياسي بيد التيارات القومية واليسارية التي تراجعت، وأصبحت بشكل كبير في موقع الدفاع عن تجربة ماضية بعد هزيمة 1967 ووفاة جمال عبد الناصر 1970.

في العقود الثلاثة الأخيرة، انتقلت المبادرة إلى الإسلاميين، أحزاباً ومفكرين، مستغلين تمكن القوميين من الحكم في الأقطار العربية (مصر، سورية، العراق) وبقاءهم خارج السلطة. أي أننا يمكن أن نقول إن الإسلاميين صاروا حاضرين أكثر في تناول مشكلات الراهن العربي.

وإذا صح لنا التعبير، يمكن أن نقول إننا انتقلنا من شعار الحل القومي، أو الاشتراكي، إلى الحل الإسلامي. في الممارسة الفكرية والسياسية في الوطن العربي، يمكن تسمية هذا النوع من إنتاج الشعارات والحلول "أدلجة الحل"، يُصبح الحل موصوفاً بالصرعة السياسية التي تتسيد هذه الفترة أو تلك.

الأحزاب الكبرى في الوطن العربي، بالذات القومية والإسلامية، تعتقد أنها، وحدها، قادرة على مباشرة القضايا العربية وتناولها. لذلك، ظهرت المادة الشهيرة في الدستور السوري (البعث هو قائد الدولة والمجتمع)، وظهرت، أيضاً، الجبهات التقدمية والوطنية والاشتراكية التي تجعل المعارضين، أو من يُفترض بهم أن يكونوا كذلك، أعواناً في حكم شمولي سلطوي.

عندما ظهر الإسلاميون أكثر على ساحة الاشتغال بحالة الراهن العربي، وروجوا إسلامية الحل، كان المُشكل الطائفي في طريقهم. ولعلاج هذا المشكل، أو لكف شره، على الأقل، تداعى فقهاء ومشايخ ودعاة إلى لقاءات التقارب (كما في تسميات بعضهم) أو التعايش (كما في تسميات آخرين)، فالذين تداعوا إلى مثل هذه اللقاءات اختلفوا هم أنفسهم حول التسمية الصحيحة.

وبشأنها، يمكن تسجيل أنها، حتى وإن دعت إلى المواطنة لأبناء الوطن الواحد، تحمل في طياتها تراجعاً ضمنياً لخطاب المواطنة والتمثيل السياسي غير الطائفي للمواطنين، ليحل محله خطاب يُطبع لخطاب الطوائف بدل حوار المواطنين. كما أنه في هذه اللقاءات يلتقي من يُعدون ممثلين للسنة وآخرون للشيعة، والتمثيل عملية سياسية، أي أن هذه اللقاءات، عن غير قصد ربما، تأخذ المجتمعات إلى ما يجب أن تخرج منه، وهو تسييس الطائفية.

ولا تبدو هذه اللقاءات ذات هدف واضح وصريح، فإذا كنا سنقول بـ (التقارب) الذي يوحي بتناقص المسافة بين كيانين، فما هذه المسافة المتناقصة؟ هل هي بين مساكن السنة والشيعة التي تبعد عن بعضها عشرات الأمتار فقط في المدن العربية المختلطة، أم المسافة بين الاعتقادات والرموز والروايات التاريخية. هل يمكن تقريب الروايتين عن قصة كسر ضلع فاطمة بنت الرسول، أو عن أحقية علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، بالخلافة من "الشيخين اللذين غصباها من آل البيت".

إذا كان التاريخ هو ما تواضعنا على روايته، فكيف يمكن التغلب على كل هذا التراكم من الروايات التاريخية لدى الجماعتين. أما إذا كان المقصود هو (التعايش)، فإنه يوحي بتطبيع حياة لم تكن طبيعية بين جماعتين، وهذا شعور يعزز مشاعر من نوع من هو الوافد على الوطن أو الثقافة أو الديانة ومن هو أصيل فيها، وعلاقة (الأصيل/ الوافد) ليست علاقة مساواة أبداً.

ويميز هذه اللقاءات نخبويتها، فهي يقودها التنوير الديني لدى الطرفين (إن صح التعبير) الذي يعتبرها معركة له داخل طائفته مع المنغلقين والمتشددين، أي أنها مرهونة للتفاعلات داخل كل طائفة. هناك سؤال كبير حول ذهاب أثر هذه اللقاءات لمختلف الشرائح كطلاب الجامعات والثانويات والأندية الشبابية وغيرها.

وتشبه هذه اللقاءات حملة العلاقات العامة ومبادرات النيات الحسنة، يتبارى فيها الطرفان على إظهار قدراتهما على صياغة عبارات التسامح وقبول الآخر. والتسامح وقبول الآخر أفعال نقوم بها تجاه الآخر الذي ليس منا، لكنه لا يعادينا. الآخر بالنسبة إلى السنة هنا هم الشيعة، والآخر بالنسبة إلى الشيعة هم السنة، يتعزز هنا أن كل طرف آخر للآخر. ما من برامج عمل أو مؤسسات تُذكر خلف هذه اللقاءات.

7DCBCDF9-9B50-4782-AA8C-FEDA3F7106B7
نايف السلمي

مهندس صناعي وكاتب سعودي مهتم بالفكر و الثقافة في الوطن العربي، ومؤلف مشارك في كتاب "في معنى العروبة .. مفاهيم و تحديات".