11 نوفمبر 2024
التطبيع.. كاميرا خفية
تضع الكاميرا الخفية التي أنتجتها شركة خاصة في تونس، بمناسبة شهر رمضان، ضحاياها في موقفٍ صعبٍ، هو مزيج من التهديد والإغراء، حينما يجدون أنفسهم في سفارة الكيان الإسرائيلي في تونس (خيالا سينمائيا وليس حقيقة طبعا)، محاطين بأشخاصٍ يحملون مسدساتٍ، وتبدأ سلسلة من المفاوضات، تدعوهم إلى تقديم خدمات جوسسة في مقابل امتيازات خيالية، تدور حول مغريات المال والجنس والسلطة. وتختلف طبعا المواقف من شخص إلى آخر، وقد تم اختيار هؤلاء من القيادات السياسية ونجوم الرياضة والفن. كانت المواقف تتراوح بين الذعر والارتباك والتردد والتنازل والرفض.. إلخ.
ما يهم هنا هو ردود الأفعال التي سبقت العمل وتلته، حتى أصبحت المسألة قضية رأي عام، ساهمت في النقاش فيها عدة أطرافٍ على الخط، منها نقابات إعلامية وجمعيات وشخصيات وقيادات رأي وأحزاب.. إلخ.
على خلاف كل الكاميرات الخفية الأخرى التي أنتجت في تونس في السنوات السابقة، والتي يبدأ لها الإشهار قبل أيام من شهر رمضان، فإن هذه الكاميرا تم التكتم عليها، ولم ينتبه إليها الجمهور إلا حينما بدأت تطفو على السطح شكاوي من أنتجوها وأخرجوها من رفض عدة قنوات بثها لأسباب يقولون إنها تتعلق بتهديداتٍ سياسيةٍ صادرة عمن وقعوا ضحايا لها، وتحديدا من السياسيين المنتمين إلى قيادات التشكيلات الحزبية المعروفة: نداء تونس، النهضة، الجبهة الشعبية، حركة وفاء، من دون إغفال الجهات المتنفذة، ومصالح ولوبيات لها سلطة على الإعلام، كما يدّعون.
يبدو أن ردود الأفعال الصاخبة تلك، وتحول الأمر فيما بعد بسرعة إلى قضية رأي عام، وهو
في هذا المناخ، لم تنج الكاميرا الخفية من تجاذبات السياسة التي أصبحت ملح الطعام في تونس، فقد ذهب قسم من الرأي العام إلى اعتبارها تطبيعا، فالمشاهد التونسي، وهو على مائدة الإفطار، يرى لدقائق مطولة علم الكيان الإسرائيلي ونجمة داود، فضلا عن شخصيات إسرائيلية، تتبجح بأن لها اليد الطويلة في تونس، وأن الجميع تحت خدمتها، وأنها تسيطر على جميع مفاصل الدولة التونسية. لم يستسغ الرأي العام تكرار هذه السرديات المهينة، والاستعراضات المتبجحة واعتبروها انتهاكا للسيادة الوطنية واستفزازا غير مقبول، حتى ولو كان كاميرا خفية، واعتبر بعض هؤلاء أنه عمل غير بريء، بل ويدفع إلى التطبيع النفسي والذهني والقيمي مع الوجود الإسرائيلي في تونس، حين يختار قادة رأي/ ونجوم المجتمع خصوصا. وذهب هذا الرأي إلى حد المطالبة بمحاكمة هذا العمل قضائيا، ودعا إلى مقاطعته.
تحت هذا الضغط وموجة الاستياء، أصدرت نقابة الصحافيين التونسيين بيانا ندّد بهذا العمل، واعتبره منافيا لكل الأخلاق المهنية الإعلامية. على خلاف هذا الموقف، نشطت بعض مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرة أن هذه الكاميرا الخفية كانت شهادة فضحت قيادات ونجوما عديدين، وكشفت حقيقتهم هذه المواقف عن خلفيات سياسية، رأت في الكاميرا وثيقة إدانة لبعضهم وبطولة لآخرين، فقد كان من بين الضحايا الذين "دانتهم" هذه المواقف مناضلون عرفوا بمقاومتهم الشرسة لنظام بن علي، ومساندتهم الصلبة للقضية، وتحذيراتهم المستمرة بعد الثورة من تغلغل المخابرات الإسرائيلية في بعض الأوساط التونسية.
يعكس هذا الجدل المحتدم توترات الرأي العام التونسي تجاه مسألة التطبيع في ظل اغتيالاتٍ
ابتكرت الكاميرا الخفية حيلة ولعبة، وهي مزيج من خيال و"اختبار على الطاير" لا يخلو من ملابسات نفسية، غير أن الغريب استعداد الناس لنصب المشانق لضحاياها، بتهمة جريمة التطبيع والخيانة العظمى، وكأن الكاميرا الخفية أصبحت قرينة قانونية وأخلاقية تامة تثبت توفر أركان الجريمة. ومع تقدير حساسية مسائل الجوسسة والخيانة والتطبيع، تقف الكاميرا الخفية شاهدة على قوة الصورة، وقدرة الإعلام تحديدا على إيجاد "الحقيقة" التي لا تخلو من تلاعبٍ بالعقول. أما مسألة الحرفية والمهنية والوازع الأخلاقي فقد لا يكون لها شأن في تلك الاستراتيجيات.