التشكيلي والغاليري: لوحات في مسالك ضيّقة

05 اغسطس 2018
(مقطع من عمل لـ ماجد زليلة/ تونس)
+ الخط -

العرض في غاليريهات بارزة هو ما يطمح إليه الكثير من الفنّانين التشكيليّين الشباب، وكبارهم أيضاً في بعض الأحيان. لكن عدداً قليلاً منهم ينجح في ذلك، فيما تنتهي أحلام كثيرين بتحقيق شهرة ونجاحٍ وعائد مالي عند أبوابها الموصَدة.

قد يُفسَّر الأمر بكثرة عدد الفنّانين التشكيليّين، من رسّامين ونحّاتين ومصوّرين وغيرهم، في مقابل قلّة الغاليريهات التي تحظى بصيت وانتشار واسعَين، ما يجعل من تنظيمها معارض للجميع أمراً مستحيلاً. لكن هذا التفسير قد لا يكون مُقنعاً تماماً؛ إذ بإمكان الغاليريهات إقامة معارض جماعية للفنّانين الشباب، تجمع فيها أعمالهم، وتضعها وجهاً لوجهٍ أمام المتلقّي الذي بوسعه أن يحكم بين الغثّ والسمين منها.

أما جودة الأعمال الفنيّة، فلعلّ نظرةً سريعةً إلى ما يُعرض حالياً في أكثر من غاليري في البلدان العربية، ستُؤكّد أنها ليست المعيار الأساسي المعتمَد دائماً. بمعنى آخر، لا يجد الفنّانون ذوو الأعمال الجيّدة مكاناً لهم في الغاليريهات بالضرورة، كما لا توصد الأخيرة أبوابها أمام جميع الفنّانين الذين يُقدّمون أعمالاً متواضعة أو ضعيفة نسبياً.

غالباً، لا تهتم الغاليريهات سوى بأسماء التشكيليّين البارزين. وعادةً ما يقتصر تسويقها للأعمال الفنّية على التي يُنجزونها. أمّا البقيّة، ومعظمهم يكتفي بالإنتاج ولا يُلمّ بقواعد العرض والطلب بشكل جيّد، فيجدون أنفسَهم غارقين في متاهات البحث عن أسواق لأعمالهم، وهو الدور الذي يُفتَرض أن يقوم به الغاليري، كوسيطٍ بين الفنّان أو المنتِج، وبين المتلقّي أو المقتني.

ولا شكّ أن للثقة ثقلها في المسألة؛ إذ إن الكثير من المقتنين لا يشترون القطع الفنية إلّا من غاليريهات محدّدَة يثقون فيها بشكلٍ مطلق، أو من فنّانين تقوم هي بترشيحهم أو تزكيتهم.

هذا الخيار يعود لأسباب عديدة؛ من بينها عدم وضوح الرؤية الفنّية لدى كثيرٍ من المقتنين، أو الرغبة في اقتناء عملٍ فنّي من دون بذل الجهد وإنفاق الوقت في البحث والتقصّي عن الخيارات الفضلى. وأحياناً، يكتفي المقتنون بشراء عملٍ أو أعمالٍ لفنّان معيّن يعرض له الغاليري، اعتقاداً منهم أن الأخير سيُكرّس اسمَ الفنّان من خلال التسويق الجيّد له، وإشراكه في الفعاليات المحليّة والدولية، ما سيرفع من أسهمه ويجعل لوحاته مطلوبةً وغالية الثمن. وبالتالي، تعود اللوحات على المقتني، بعد سنوات، بأضعاف ثمنها الذي اشتراها به.

هكذا، لا يتبّقى للفنّان الذي لم تُتح له فرصة العرض فيها سوى انتظار صدفةٍ قد تُخرج أعماله من المرسم إلى فضاءات أوسع، أو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت وسيطاً مهمّاً لعرض جميع المنتجات، بما فيها الأعمال الفنّية.

يُؤكّد عددٌ غير قليل من الفنّانين التشكيليّين أنهم يكتفون بإنجاز العمل الفنّي، من دون أن يولوا كبير اهتمامٍ بما يتبَع ذلك من عرضٍ وتسويق، وقد يكونون محقّين في ذلك. لكنهم، في هذه الحالة، إمّا لديهم مصادر دخلٍ أُخرى تجعلهم غير متفرّغين للعمل في الفن، أو يعيشون حياةً ميسورة تُغنيهم عن انتظار عائدات أعمالهم الفنّية. وكلتا الحالتين لا تُشكّلان سوى نسبة ضئيلة عند التشكيليّين العرب.

وبالعودة إلى معايير الغاليريهات في اختيار الفنّانين الذين تعرض لهم، فالمؤكّد أن لكلّ غاليري سياسته الخاصّة. لكنها ليست واضحةً دائماً، وربّما تخضع إلى المزاج الفنّي لصاحبه وآرائه الشخصية؛ كأن يُفضّل توجّهاتٍ وجنسيات بعينها، أو الفنّانين الذين يحملون شهاداتٍ من مدارس أو جامعاتٍ غربية. لكن المؤكّد أن أحد الشروط الأساسية هنا هو أن يبقى الفنّان "مخلصاً" لها، فلا يعرض ولا يبيع أعماله إلّا من خلالها.

والحال هذا، تبدو الشروط أو المعايير، في معظمها، غير معتمدةٍ في الأساس على المنتَج الفنّي نفسه؛ إذ بإمكان الغاليري تسويقه سواءً كان جيّداً أم سيّئاً. هذا، لا تبقى سوى مجموعةٍ من المعايير الهلامية تصنعها الرؤية التجارية التي تُحدّد وحدها نجاح المؤسّسة من فشلها.

في ظلّ هذا الوضع، لا يبقى أمام الفنّان الذي يتعامل مع هكذا شروط سوى الخضوع إلى سياسات الغاليري، الذي يُطالبه بالتجديد المستمرّ وبتغيير أساليبه أحياناً، ما يتطلّب جهداً ذهنياً إضافياً منه، وعبئاً مادياً عليه. لكنه في النهاية، لا يحصل سوى على نصف ثمن العمل الفنّي على أكثر تقدير.

وبالتأكيد فإن الإعلام والنقد الفنّي يلعبان دوراً مهمّاً في المسألة، وغالباً ما يُروّجان للغاليري، من خلال مواكبة معارضه، والإشادة باختياراته الفنّية، وإن كان ذلك على حساب الفنّانين الجيّدين الذين لم تفتح لهم الغاليريهات أبوابها.


* كاتب سوري

المساهمون