التردي الفلسطيني الذي لا قاع له

10 يناير 2015
+ الخط -

لا يسرّ الوضع الفلسطيني الداخلي صديقاً ولا عدواً، فقد بلغ من التردي حدوداً فاقت كل تصور، والمشهد يقول إنه تردٍ مرشّح للازدياد، ولا يبدو أن أحداً في الساحة الفلسطينية، من قوى وفصائل سياسية، كبيرها وصغيرها، مشغول فعلاً في إخراج الوضع الفلسطيني من حالته هذه، بل على العكس، هذه القوى مسؤولة، بشكل مباشر، عن هذا التردي وتوغل في تعزيزه. ويبدو أن الجميع في الفصائل، إما استسلم لواقع التردي القائم، أو ترتبت له مصالح، يدافع عنها في بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، من دون تغيير.
من أسوأ ما جرى فلسطينياً، في السنوات الأخيرة، على مستوى الدلالة السياسية، أن كل المفاهيم السياسية تم تفريغها من معناها، ولم تعد تدل على شيء أو محتوى، ما يعني تفريغ المشروع الوطني نفسه من الحمولة التي أنجزها الفلسطينيون في العقود الأربعة المنصرمة، من إعادة إنتاج الوطنية الفلسطينية الحديثة، في شروط غاية في التعقيد. خذ، مثلاً، مفهومي المصالحة الوطنية، الوحدة الوطنية، على الرغم من أن القيادات الفلسطينية، صغيرها وكبيرها، ومن كل الطيف السياسي، ترددهما باستمرار، إلا أنها لازمة لغوية خطابية لا معنى لها، ولا تدل على شيء، مجرد لغو يقال في خطابٍ لا معنى له، لزوم العمل السياسي الفلسطيني الذي يشكل المفهوم جزءاً من واقعه السياسي، بصرف النظر عمّا إذا كان يحمل معنى، وهل هناك مَن يبحث عن أشكال سياسية لإنجاز هذه الوحدة أو المصالحة الوطنية، أم أنها كلام للاستهلاك المحلي. والفعل في مكان آخر، ترتبت عليه مصالح أخرى، تتعارض مع المصالحة والوحدة الوطنيتين، بل على العكس تعمل ضدها على طول الخط. هذا ما يفسر المفارقة الفلسطينية

بانفصال القول عن العمل، ويجيب على سؤال: لماذا يزداد استخدام المصطلح، كلما كانت الهوّة بين القوى السياسية أكبر، وازداد استخدامه عندما وصلت الصدمات الفلسطينية ـ الفلسطينية إلى مراحل دموية؟ ولماذا إلى اليوم، لم يتم التقدم خطوة واحدة باتجاه المصالحة بين حكام غزة وحكام الضفة الغربية، أكثر من سبع سنوات من الصدام الدموي، وما معنى "الوحدة الوطنية" بعد كل ما جرى؟
بالتأكيد، لا يمكن استبدال الواقع بالكلمات، ولا يمكن اختصار السياسة في الخطابة، إلا أن الساحة الفلسطينية، منذ سنوات، اعتبرت الكلام كل السياسة. ومن أجل ذلك، أقامت القيادات، بدوام كامل، في استديوهات القنوات الفضائية، حيث اعتبرت وجودها في الفضاء الإعلامي بديلاً عن وجودها في أوساط الناس والعمل معهم. فاستبدال الواقع بالكلمات مرض فصائلي فلسطيني، لا يمكن الشفاء منه. لكن، اليوم، مهما كان الخطاب السياسي بليغاً في الساحة السياسية الفلسطينية، لا يمكن أن يغطي على الانحدار المروع الذي وصلت إليه الساحة الفلسطينية، بكل فصائل العمل الوطني، كبيرها وصغيرها، فقد تحولت هذه الفصائل، فعلياً، إلى عبء على العمل الوطني والمستقبل الفلسطينيين. فعلى الرغم من كل الشعارات التي ترفعها، والخطابات التي تدبجها عن الصراع مع إسرائيل، وعن دورها الحاسم في القضية الوطنية، إلا أن ممارستها الفعلية فئوية ضيقة تضر بالقضية الفلسطينية، ولا تخدمها، وإن كانت تحاول أن تتخفى خلف شعارات وطنية عامة وفضفاضة، وتكرر أنها جزء من الخريطة السياسية الفلسطينية، مع أن لا وزن لهذه القوى، ولا جمهور إلا بمقدار ما تغطي حصتها من (كوتا) منظمة التحرير رواتب رجال، مستزلمين لقابض الحصة، أكثر منهم مهمومين بالهم الوطني.
ما حصل من تردٍّ على الساحة الفلسطينية، ليس وليد اللحظة السياسية، ولا وليد الأشهر الأخيرة، إنه وليد تاريخ طويل من التردي في العمل السياسي، لم تتم معالجته في حينها، ووليد غياب المؤسسة في العمل السياسي الفلسطيني. لذلك، لم يخطئ الفلسطينيون، عندما سموا القوى الفلسطينية بأسماء قادتها.
صحيح أن القوى الرئيسية مسؤولة عن التردي بشكل أساسي، لكننا، كأفراد، مسؤولون عنه أيضاً، وإن بشكل غير مباشر. هناك نخبة فلسطينية كبيرة، شاءت في العقود الثلاثة الماضية أن تغادر العمل السياسي والفصائلي بصفته مستنقعاً لا يمكن التعايش معه. وبالتالي، توالت موجات الخروج من الفصائل الفلسطينية منذ السبعينات وصولاً إلى التسعينات، ما أضر العمل السياسي الفلسطيني على مستويين. الأول، أنه أخرج من فصائل العمل الوطني خيرة الكفاءات الفلسطينية، وباتت الفصائل أرضاً قاحلة. الثاني، أن هذا الخروج جلب إلى الساحة الفلسطينية أسوأ أنواع القيادات، وأسوأ أنواع كوادر العمل السياسي، وأقلها كفاءة وأكثرها استزلاماً للقيادات التي شاخت في مواقعها منذ سنوات طويلة، يكفي نظرة على اجتماع للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وترى معدل الأعمار، حتى تتعرف على جزء من المأساة الفلسطينية.
تقود الساحة الفلسطينية، اليوم، أسوأ نخبة يمكن أن تقود شعباً في معركة معقدة مع عدو استثنائي، ما يشكل تهديداً حقيقياً بتبديد القضية الفلسطينية كلها. إن تردي اليوم قابل لأن يصبح أسوأ، وقادر على تحويل المستقبل الفلسطيني إلى مستقبل الظلمة التي ستعمينا جميعاً، إذا لم يكن هناك تحرك ما، يخرجنا من الحفرة العميقة التي سقط فيها العمل السياسي الفلسطيني.


 

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.