يحفَل تاريخ الكتابة بأمثلة كثيرة لأدباء اتّخذوها وسيلةً لمقاومة الظروف الصعبة وأنظمة الحكم المستبدّة. وبما أن الترجمة هي كتابة بدورها - ولو أنها جنسٌ مستقلّ، كما قال أورتيغا إي غاسيت، فقد عرفَت تاريخاً حافلاً من المقاومة التي زاوَلها ممارسوها من المترجِمين.
يأتي مارتن لوثر على رأس المترجِمين الغربيّين في المقاومة، باجترائه على ترجمة الإنجيل إلى اللغة المحلية الألمانية متحدّياً الكنيسة ومُقاوماً اضطهادها إيّاه، وبتعبيده طريق ترجمة الكتاب المقدَّس أمام مترجِمين أوروبيّين آخرين من اللغات المحلية الأوروبية، وما تبع ذلك من ترسيم الأخيرة لغاتٍ لبلدانها في التعليم والإدارة.
مارست المقاومةَ بالترجمة كثيرٌ من دور النشر التنويرية التي آمنت بالتجديد وإيصال الفكر المغاير والحداثي إلى مجتمعها، دون تهيُّب، لإيمانها بأن "جوهر الترجمة هو أن تكون انفتاحاً، وحواراً، وتهجيناً، وتفكيكاً للمركزية"، كما يقول بول ريكور، الذي يرى أن "الترجمة إمّا أن تكون في ارتباط، وإما أن لا تكون شيئاً". تشهد على ذلك تجربة دور نشرٍ في إسبانيا والأرجنتين والبرتغال زمنَ ديكتاتورياتها.
وللترجمة وجهٌ آخر يؤكّد نزوعها إلى المقاومة؛ فالمترجِم مهما ادّعى التزامه الحياد، أي عدم التدخّل في النص الأصل بتغييرات تطاول اللغة والأسلوب والإيقاع والمعنى، فإنّ تغيُّراً ما يلحق الأصلَ بالضرورة، لمجرَّد زحزحته عن موقعه بنقله إلى اللغة المُضيفة ذات الثقافة الأجنبية؛ الأمر الذي يؤكّد ما أورده أنطوان بيرمان من أن "الترجمة يكون فيها شيءٌ من عنف الهُجنة […] لأن كلّ ثقافة تودّ أن تكون مكتفيةً بذاتها. وانطلاقاً من هذا الاكتفاء المتخيَّل، ترغب في أن تشعّ على الآخرين وأن تتملّك تراثهم".
وجليّ أن النص الأصل - والذي هو في الحقيقة أصل للنص المترجَم فحسب، على اعتبار أن فكرة الأصل لا تثبُت أمام نقد بورخيس وبارت اللذين يريانها وهماً، وأن لا مبرِّر لتبنّيها طالما أن النص الذي نعُدُّه أصلاً ليس سوى ملتقى علامات ونصوص كثيرة تحتجن فيه - لا يُسلِس قيادَه طوعاً للمترجِم الذي يُدخلُه مُختبَرَه، بل يبذل قُصارى جهده ليُقاومَ باستماتةٍ التطويعَ والتدجين اللذين يُخضَع إليهما، في الغالب.
وبقدر ما يسعى المترجِم إلى إظهار النصِّ الأصل وكشفِه لقارئٍ غير الذي استهدفه المؤلِّف بعمله، يعمل النصُّ الأصل - حسب والتر بنيامين - على أن يُبقي شيئاً فيه عصيّاً على الكشف لكي لا يُستنفَدَ فيؤولَ إلى الزوال، وإنما يتحرّى الحفاظ على شيء من الغموض اللافت الذي يُرشّحه على الدوام لأن يكون موضوع إغراءِ ترجمةٍ جديدة، حتى لكأنه راقصة الإغراء التي تُظهر أشياء كثيرة، لكنها تخفي الأهم، فيبقى التلهُّف إليها دائماً.
وأثناء ذلك، وفق بيرمان، "يعاني المترجِم، على المستوى النفسي؛ فهو يريد أن يُرغِم جانبَين: أن يُرغِم لغته على اغتنام الغرابة، وأن يُرغِم اللغة الأخرى على الارتحال إلى لغته الأم".
ونعرف عبر الأسطورة أن الترجمةَ سَعْيٌ بشريٌّ إلى العود الأصلي، بعد الشتات البابلي، لذلك فهي مقاومة لعقاب الرب، لكنها في تجلِّيها النصي ستبقى مُقاومة كتابية وهُوِيَّتيّة، طالما أنّ الهيمنة في مزاولتِها تَصْدُر عن استراتيجية "حمل المؤلف إلى القارئ"، أي تدجين الأصل، التي تغلبُ على ترجماتنا العربية، دون السَّعي إلى "حمل القارئ إلى المؤلف"، أي تَوَخّي الغرابة، وهما الطريقتان الشهيرتان في الترجمة، وقد رصدهما وحلَّلهما منذ قرنيْن الهيرمينوطيقي الألماني فريدريش شلايرماخر.