لا يتردَّد كثيرٌ من قُرّاء الكاتب المغربي محمد شكري في الإقرار بتفوُّق نص سيرته "الخبز الحافي"، في ترجمته الفرنسية (1981) التي أنجزَها الطاهر بن جلّون على أصلها العربي، والتي مهدت له السبيل إلى العالمية، وهو ما أخفقَت فيه الترجمة إلى الإنكليزية (1972)، التي أنجزها الكاتب الأميركي، نزيل طنجة، بول بولز (نيويورك 1910 - طنجة 1999).
لقد صمت شكري عن فضل ترجمة بن جلّون، لكنه امتعض كثيراً من ترجمة السيرة ذاتِها إلى الإسبانية، تلك التي أنجزها الهيسباني المغربي عبد الله اجْبيلو، وعبَّر عن تذمُّره منها شفهياً وكتابةً في مناسبات عدّة، خصوصاً في كتابه "حوار" الذي أنجزه معه الكاتبان الزبير بن بوشتى ويحيى بن الوليد.
والمعلوم أن شكري لم يُغامر بكتابة سيرتِه بالإسبانية، على الأقل، اللغةِ التي كان يُتقنها باعتراف كثيرين، أو أن يُترجِمها بنفسه عوض أن يحتجّ على الجميل الذي قدَّمه له مترجمُه إلى الإسبانية، وأنْ يقتدي، مثلاً، بما قام به الروائي التشيكي ميلان كونديرا الذي لمْ يرضَ عن مترجِميه إلى الفرنسية، فعَمِل على تعلُّم الأخيرة، وأصبح يُمارس الترجمة الذاتية لأعماله الروائية، وقِسْ عليه نابوكوف، وصامويل بيكيت، وخورخي سِمْبْرُونْ، وآخرين.
يُمكن للترجمة، بصفتها نشاطاً وفعلاً، أن تكون في ذاتها احتجاجاً على واقع بعينه؛ إذ تؤكِّد أمثلة عديدةٌ، عرفتْها القرون الوسطى، أنّ صدور ترجمات في وقت بعينه كان احتجاجاً على ممارسات سياسية بالأخصّ، ويكفي أن نتذكَّر مآل ابن المقفع الذي اعتُبرتْ ترجمتُه حكايات "كليلة ودمنة" من أسباب فاجعته.
وقد شهدَت إسبانيا سنة 1985 احتجاجاً طريفاً على ترجمة الإنجيل إلى اللغة البَلَنْسِيَّة، من قِبَل عُمداء جامعات عمومية وخصوصية في بلنسية وبرشلونة وجُزر مَيُّورْقَة، حين راسلوا رئيس المؤتمر الأسقفي لإسبانيا، معترضين على إصدار نسخة للأناجيل باللغة البلنسية من مجموعة "أَمُونْتْ إِلْ كُورْ" المناهضة للنزوع الكتالاني.
لقد خَشِي المحتجون وقتئذ على اللغة المحلية التي طُبِّقتْ عليها المعايير اللغوية الكتالانية التي وضعها بُومْبِيُّو فابْرَا، واعتمدتها حكومة بلنسية. لكنّ المؤيِّدين للترجمة من أنصار "أَمُونْتْ إِلْ كُورْ" اتهموا خصومَهم بكونهم "يُدافعون زُوراً عما يُفتَرَض أنها هوية اللغة البلنسية مع الكتالانية... وأنهم يُحاولون بادعاءات شبه علمية إخفاء مقاصد لا يُصرَّح بها"؛ هي تلك التي برزت العامَ المنصرم في صيغة مطالبة صريحة بالانفصال عن إسبانيا.
الأكيد هو أن الاحتجاج رافقَ الترجمةَ على مرِّ التاريخ، ولعلَّ أقربَ مثال إلينا هو رواية الهندي سلمان رشدي "آيات شيطانية"، التي اعتُبِرتْ إهانة للمسلمين ونَيْلاً صريحاً من مُقدَّساتهم، لذلك خرجت الملايين في كثير من البلدان الإسلامية تحتجُّ على الرواية وترجماتها التي شرعت تظهر، بل إنّ القتل أو الاعتداء أو التهديد كان من نصيب بعض مترجِميها.
لكنَّ الفنَّ عموماً، مثلما أكَّد الفيلسوف الألماني هانز جورج غدامير، والأدب على وجه الخصوص، مسكونٌ بالاحتجاج على تدنيس معيَّن يطول وجود الإنسان، ولا شكَّ في أن الترجمة باندراجها ضِمْنَ الأخير تكون حمّالة لقضاياه ومشاكله.
ولعلّ من أبرز المواقف التي صدرتْ عن الكُتّاب احتجاجاً على ترجمة أعمالهم إلى لغة أخرى، ذاك الذي سجَّلته الكاتبة الأميركية أَليسْ وُوكِرْ الفائزة بـ"جائزة بُولِتْزِر" سنة 1983، عن روايتها "اللون الأرجواني"، والتي حوَّلها إلى فيلم المخرجُ ستيفين سبيلبرغ.
اعترضتْ وُوكر على ترجمة عملِها المذكور إلى العبرية، سنة 2012، في إطار حملة المقاطَعة الثقافية والأكاديمية لـ"إسرائيل"، بسبب سياسة "الأبارتايد" التي تمارسها في حقّ الشعب الفلسطيني. ولم تُخْفِ الروائية تنديدَها بتلك السياسة العنصرية، بل أكَّدتْ أنها تنسجم بموقفها هذا مع موقف صدر عنها في الماضي، حين دانت ممارسات دولة جنوب إفريقيا في حق المواطنين السُّود، مؤكِّدة بذلك أنّ الترجمة موقفٌ وجودي أيضاً.