فالكتاب بنسخته العربيّة يوجّه دعوةً إلى لاكان للحضور في حياتنا الثقافيّة حضوراً نقديّاً، سائلاً ومتسائلاً، كما يتيح أيضاً الفرصة لنفض الغبار من جديد عن سؤال الخطاب التحليلي في المجتمع العربي تحديداً. هي إذن مناسبة لقول كلام في مديح الرغبة، أو في مديح الذات المترجِمة كأحد تجلياتها الفريدة والجريئة.
سأدّعي أن الترجمة لاكانيّاً هي فعل رغبة، وأنّ تلك الرغبة التي هي ذلك السؤال الذي يفيض سرّاً من ذات المترجِم على النصّ المترجَم. يستدرج المترجمُ الآخرَ الذي يسكن النصّ ويوكل إليه تلك المهمّة التي تظلّ مستحيلة: مهمّة الإجابة على أسئلةٍ شخصيّة وجوديّة لا يشفي غليلها جواب أو كتاب. لكن غياب الجواب لا يفسد للودّ قضيّة. الودّ هنا هو ذلك القرب من الآخر الذي تتشكّل في حضوره إنسانيّتي.
إذا كان النصّ، كلّ نصّ، وليدَ ذاك النقص المتأصّل في الوجود، فالترجمة هي انشغال بتلك القاف المحذوفة، القاف التي تتوسّط النون والصاد، قاف القلق ربّما، وبالرغبة المؤجّلة دوماً التي تغلي فيها. هو نقص يحاور نقصا، ورغبة تحاور رغبة. رغبة المترجم هي رغبة الآخر، هي دعوة للآخر ليقرأني ويطمئنني على حضوري في العالم، أن يكون الآخر طريقاً إليّ ودليلاً في مجاهل نفسي. على الرغبة ومصائرها يؤسّس لاكان نظريته التحليليّة، الرغبة كاسمٍ حركيّ متوتّر لوجودٍ مبتورٍ ومبتسر، لتمامٍ نفسيّ احتدم وانهدم هناك في الأقاصي السحيقة للنفس، قبل اللغة.
أطلّ لاكان على المشهد النفسي-تحليليّ بمقولة العودة إلى الأصل الفرويديّ، ذاك الأصل الذي، برأي لاكان "خانته الترجمات" اللاحقة للفرويديين الجدد. وهو في ذلك يمثّل نموذجاً للمثقّف الانشقاقي المنفيّ في عالمه، الذي لم يتنازل يوماً عن الرغبة بقول الحقيقة وإن أثقلها الألم والاغتراب والعيش المزمِن "خارج المكان".
يفك لاكان الارتباط الفرويديّ بين الرغبة والغريزة ليربطَها بما هو أعمق وأصدق. ليست الرغبة احتياجاً بقدر ما هي نداء، نداء لا تطلقه النفس إلّا بحضور آخر يصغي. لدى لاكان الرغبة هي رديفة النداء الداخلي الذي تكتنزه الذات و تطفح به. الرغبة بمفهومها اللاكانيّ أقوى صدىً و أوسع مدىً من الغريزة، لأنّها مشدودة دائماً إلى مكان آخر وعصيّة على الامتلاك والاستهلاك.
الرغبة هي الانتظار سدىً لأنّه في الانتظار تتشكلّ إنسانيتنا. هي أيضاً ما يكشف أستار المعنى و يمنح الحياة معناها القاطع، كسيف أبي تمّام في قصيدته الشهيرة "في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب"، وما يدفع الشاعر إلى التصريح أن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". بشكلٍ أدقّ لا يمكن للذات أن تحدث أو أن ترى النور حقّاً، دون أن تعتنق نداءها اللاواعي الخاصّ بها وتحقيق الاعتراف به من الآخر. هذا الاعتراف هو مجال عمل المحلّل أو المعالِج. هو أيضاً مجال عمل المثقّف. وفي الحالتين هو عمل في اللغة، وفي الحالتين اللغة هي مجال تثوير وتغيير.
ما علاقة كلّ ذلك بالترجمة؟ الترجمة هي أيضاً كناية عن الحاجة للآخر وضرورة استحضاره وإنشاء علاقة ذات معنى معه للإحساس بذاتنا وإنسانيّتنا. يخبرنا لاكان أنّ الرغبة مقرونة بالحاجة للآخر ليس كموضوع للرغبة وإنما كشاهد على حضورنا في العالم. الآخر المتاح أو الآخر المستحيل. أو بلغة لاكان الآخر الصغير أو الآخر الكبير. يسخّر المترجم ذاته لإحياء ذوات أخرى في لغة جديدة، وفي نفس الوقت يضخّ ذاته ولغته بحياة لا تنضب.
الترجمة عن اللغة الإنكليزيّة التي يقترحها روحانا، مقنعة بسلاستها وخوضها الواثق في مجالٍ محفوف بالسحر والمخاطر. فيها غوص منضبط ومقتدر في عالم لاكان المتفلّت من قبضة الوضوح المطلق، كما اللاوعي في تمنّعه عن الوصف. هي مغامرة المثقّف الإنسان الذي لا يتعامل مع الترجمة كإجراء تقنيّ وانما كأمر وجوديّ جلل. يلاحظ القارئ في ترجمة روحانا ذلك الحضور للذات، ذلك التلذذ، بالكلام إذا استعرنا أحد المفاهيم اللاكانيّة. هذه الترجمة، تفعل ما تفعل، أي تنقل رغبة المعرفة، بكثير من الشغف اللغوي المتمكّن من الكلام والمدرك، في نفس الوقت، للطبيعة غير المستقرّة للمعاني.
الترجمة بوصفها فعل رغبة هي، كأيّ كتابة ربّما، كناية عن حالة من النقصان شخصيّة وعامّة. هي محاولة لمراودة النقصان الوجوديّ والثقافيّ عن نفسه. ذلك النقصان الذي يولّد الرغبة بالمعرفة ليس بمعناها الأكاديميّ المشغول بخطاب الهيمنة، وإنما بخطاب التحرير الذي هو خطاب التحليل النفسي بامتياز، بمعنى الاقتراب من الذات، من أعماقها وآفاقها وتحصينها أمام سطوة السلطة بمختلف تجليّاتها، من الأب القامع، إلى النظام السياسيّ المستبدّ، إلى الرأسماليّة المتوحّشة.
* شاعر وباحث سيكولوجي فلسطيني