التربية الجنسية... قوميو بولندا يحاربون العلم والوعي

03 نوفمبر 2019
تأييداً للتربية الجنسية في مدارس بولندا (ألكسندر كالكا/ Getty)
+ الخط -

في بلاد "كاثوليكية" بامتياز، مثل بولندا، لا يبدو من السهل إدخال تعديلات على القوانين أو استحداث أخرى قد يرى فيها المتديّنون مساساً بهم وبجوهر إيمانهم، وإن كانت لا تتعلّق مباشرة بالدين

يستمرّ السجال في بولندا ما بين الكنيسة الكاثوليكية وحكومة القوميين المتشددين، حزب "القانون والعدالة"، من جهة، ومن أخرى المعارضة في اليسار ويسار الوسط وبعض الرأي العام البولندي، وذلك وسط انتقادات حادة يوجهها الاتحاد الأوروبي إلى حكومة وارسو على خلفية قوانين ومشاريع قوانين يراها المعسكر الثاني تنتهك الأسس الديمقراطية ومبادئ الاتحاد الأوروبي فيما يراها المعسكر الأول "محافظة على قيم المجتمع البولندي المسيحية". وعلى خلفية ذلك السجال، شهدت شوارع العاصمة وارسو وعدد من المدن الأخرى، خروج عشرات الآلاف في تظاهرات للاحتجاج على مشروع قانون يجرّم تعليم مادة التربية الجنسية في مدارس البلاد ويقضي بمعاقبة المدرّس الذي يجرؤ على ذلك بالسجن حتى ثلاثة أعوام.

ويأتي ذلك بعد أيام قليلة من فوز حقّقه الحزب القومي الشعبوي المتشدد "القانون والعدالة" في الانتخابات العامة التي أجريت يوم الأحد 13 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بزعامة ياروسلاف كاتشينسكي، علماً أنّ المشاركة في الانتخابات سجّلت 62 في المائة فيما حصل الحزب المتشدد على 45 في المائة من الأصوات مستنداً إلى خطاب ديني متشدد، لا سيّما في الأرياف، إلى جانب وعود بسياسات اجتماعية تعزّز من مكانته السياسية والبرلمانية وسلطته في مؤسسات الدولة المختلفة. وفي الفترة الأخيرة، تقدّم نواب عن الحزب بمقترح يقضي بمعاقبة من يستمرّ في تدريس مادة التربية الجنسية، علماً أنّ حركة شعبوية تقف خلف مشروع القانون تطلق على نفسها اسم "أوقفوا اشتهاء الأطفال"، وهي الحركة التي نشأت في خلال الصيف المنصرم على خلفية فضيحة كبيرة هزّت الكنيسة في أكثر البلدان الأوروبية تديّناً. فقد كُشف النقاب عن اعتداءات جنسية ارتُكبت على قصّر طاولت 625 طفلاً دون الخامسة عشرة، على يد 382 كاهناً في نحو 10 آلاف أبرشية، ما بين 1990 و2018، بحسب ما أفادت صحيفة "دي فيلت" الألمانية في مارس/ آذار الماضي.




هيمنة على الدولة
وتبدي المعارضة في بولندا امتعاضها من مقترحات حزب "القانون والعدالة" على خلفيّة توجهاته للهيمنة على مؤسسات الدولة، بما فيها القضائية والإعلامية. وهو ما دفع عدداً من السياسيين من أمثال المعارضة جوانا شيورنغ فايلغوس إلى التحذير من نفوذ متعاظم للكنيسة الكاثوليكية في بولندا، واصفة طرح مشروع القانون من قبل برلمانيين متشددين بأنّه "عار على هؤلاء النواب الثمانية"، بحسب ما جاء في تغريدة لها على حسابها الخاص على "تويتر". وقد سبق لفايلغوس أن انتقدت كبير الأساقفة البولنديين مارك جيودوفسكي في أغسطس/ آب الماضي، قائلة إنّه "يتحدث بلغة نازية في عام 2019"، وذلك إثر حديث صحافي وصف في خلاله المعارضة في يسار الوسط بأنّها "طاعون أحمر في بلدنا يحاول اختراق عقولنا وقلوبنا ليس عبر البلشفية والماركسية، وإن كانت قد ولدت من الروح نفسها، إنّما عبر لون قوس القزح"، وذلك في إشارة إلى معارضة هائلة تواجهها الكنيسة البولندية من قبل الحركات الداعية إلى احترام حقوق المثليين جنسياً والحقّ في الإجهاض.

"التثقيف لا يعني الجنسنة" (ميكال فلودرا/ Getty)












ويتمحور الجدال الذي يُسجَّل في بولندا مع كل انتصار يحقّقه القوميون المتشددون، حول دستورية الإجراءات التي تتخذها حكومة كاتشينسكي سواء على الصعيد الداخلي أو في ما يخصّ العلاقة مع المؤسسات الأوروبية، مثلما حدث سابقاً حول استقلالية القضاة وتدخّل الحزب الحاكم في إحالة بعض ممّن لا يرضى عنهم إلى التقاعد المبكر. وفي 16 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، صدر عن المحكمة العليا في بولندا أنّ "مشروع القانون (المتعلق بوقف التربية الجنسية في المدارس) بصيغته الحالية ربّما يتعارض مع الحقوق الدستورية في التعليم". وتُعَدّ مادة التربية الجنسية التي يُطلَق عليها "تعليم الجنس"، مثار جدال، علماً أنّها تُقدَّم في المدارس تحت عنوان "التحضير للحياة العائلية". يُذكر أنّ هذه المادة تُقدَّم في المدارس العامة في إطار الثقافة الجنسية، كما هي الحال في المدارس الأوروبية الغربية. وقد سمحت مدن في بولندا لبعض المدارس فيها بتقديم تلك الدروس، ما أدى إلى موجة احتجاجات من قبل القوى المحافظة لا سيّما الحزب الحاكم، بدعم واضح من رجالات الكنيسة الكاثوليكية في البلد. وفي هذا الإطار، نقلت وكالة "رويترز" عن العضو الجديد في البرلمان، عن الحزب القومي المتشدد، مارسين أوشيبا، في 16 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أنّ ما يجري هو "مبالغة في تفسير القانون المقترح، لا سيّما عندما يتحدّث معارضوه عن خطر سجن المدرّسين. وما من شيء خاطئ في المقترح، فكلّ ما نريده من وراء سنّ هذا القانون هو عدم تعليم مادة التربية الجنسية لمن هم دون الخامسة عشرة".




جدال مستمر
يُعَدّ السجال المستمر منذ أعوام ما بين الكنيسة والقوى السياسية عامل قوة للحزب الحاكم الذي يلعب على مشاعر الخوف عند المواطنين من الإسلام من جهة. لكن، ما يميّزه هذه المرّة هو أنّ الكنيسة التي عاشت فضيحة كبيرة ما زالت تداعياتها قائمة، بفعل ارتكاب الكثير من رجالها اعتداءات جنسية على قصّر، ترى أنّ مادة التربية الجنسية تتنافى والقيم الأسريّة في البلد. وتحت شعار "قيم البلد المسيحية"، قاد حزب "القانون والعدالة" حملته الانتخابية في العام الجاري، مبشّراً بدعم مالي للأسر التي تنجب أطفالاً أكثر. ويُعَدّ التحالف العلني ما بين الكنيسة الكاثوليكية البولندية والقوميين المتشددين أحد أهم عوامل الاصطفافات المجتمعية المتعارضة في البلد، خصوصاً مع استخدام لغة يعدّها سياسيون في حزب الخضر والديمقراطيين "محرّضة" على الأقليات في المجتمع. ومن اللغة المستخدمة نذكر "السمّ الأحمر والبني" لوصف من هم ليسوا بِيضاً، و"الشيوعيون والنازيون بمثابة ويلات على بولندا" للإشارة إلى مؤيّدي الحريات الجنسية وداعمي الإجهاض، وذلك في مجتمع يُعَدّ من أكثر مجتمعات أوروبا تديّناً. أمّا بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فإنّ سياسات الحزب الحاكم "القانون والعدالة" تسبّب الصداع إذ إنّها "سياسات غير ليبرالية وتضرب استقلالية القضاء".

وعلى خلفيّة اعتداءات الكهنة الجنسية على القصّر في البلاد، نقلت صحيفة "دي فيلت" عن أحد كبار الأساقفة البولنديين ويُدعى ستانسلاف غاديسكي، أنّ التقرير الذي تضمّن اعترافات الذين تعرّضوا إلى الاعتداءات كان "مؤلماً ويدلّ على خيانة ثقة الرأي العام وإيذاء من هم الأكثر ضعفاً (الأطفال المعتدى عليهم)". لكنّه رأى في الوقت نفسه أنّ المشكلة (الاعتداءات الجنسية التي كشف عنها التقرير) "لا تقتصر على الكنيسة فحسب، بل ثمّة اعتداءات أخرى لا بدّ من التحقيق فيها"، سائلاً: "ما الفائدة في التركيز على الكنيسة الكاثوليكية في بولندا إذا استمرت (الاعتداءات) في أماكن أخرى؟ ماذا عن سياحة الجنس والعبودية والاتّجار بالأعضاء البشرية؟".

حركة "أوقفوا اشتهاء بالأطفال" متّهَمة (ميكال فلودرا/ Getty)










التزام بالكنيسة
وفي يونيو/حزيران الماضي، نقلت إذاعة "بولسكيه راديو 24" البولندية عن غاديسكي أنّ المحاكمات التي بدأت هي "محاولة لضرب روح المجتمع بهدف زعزعة الإيمان بالرب من قبل المثقفين". وفي السياق، نقلت "نيويورك تايمز" عن أحد ضحايا الاعتداءات، ميريك ليزنسكي، في مارس/ آذار الماضي، أنّ تلك التصريحات "إهانة بحدّ ذاتها، وهي تظهر مرّة أخرى أنّ الكنيسة تقف إلى جانب المجرمين وتضعهم في مكانة أعلى من الضحايا". وكان ليزنسكي قد اعترف في فبراير/ شباط الماضي، بعد لقاء الفاتيكان حول تلك الفضيحة، بأنّه أحد ضحايا اعتداءات رجال الدين، وقد شارك في تأسيس منظمة تعنى بشؤون الضحايا. وتابع ليزنسكي أنّ تلك الاعتداءات "أكثر بكثير من تلك الأرقام (384 اعتداءً بحسب الوثائق)".




وتفيد أرقام مركز "بيو" للأبحاث الصادرة في صيف 2018، بأنّ نحو 97 في المائة من شعب بولندا البالغ عدده 38 مليون نسمة، هم أعضاء في الكنيسة، ما يجعلها من أقوى الكنائس الكاثوليكية في أوروبا والغرب عموماً. لكنّ البلاد بحسب "بيو" تضمّ النسبة الأكبر من الشباب الذين يغادرون الكنيسة بالمقارنة مع البلدان أوروبية، وبينما يؤدّي 39 في المائة من الشعب فوق 40 عاماً الصلوات يومياً، فإنّ 14 في المائة فقط من الشباب البولندي يؤدّونها يومياً، بالتالي فإنّ الجيل الشاب أقلّ تديّناً من الآباء والأجداد.
المساهمون