الترامبية في مواجهة الأوبامية: الثابت والمتحول بين الرئاستين

12 يناير 2017
يجاهر ترامب بنيته إنهاء "إرث أوباما" (Getty)
+ الخط -
اجتاح رجل الأعمال النيويوركي، دونالد ترامب، المشهد السياسي الأميركي في السنة الأخيرة من ولاية باراك أوباما، مستنداً إلى خطاب يقف على طرفي نقيض كل ما يمت بصلة إلى "الأوبامية" والإرث السياسي الذي راهن الرئيس الأميركي ذو الأصول الأفريقية على أن يخلّفه وراءه في البيت الأبيض. وقبل أيام من تسلمه منصبه الجديد، يجاهر الرئيس الأميركي المنتخب بنيته الانقلاب على إرث أوباما.
وتعبر "الترامبية" عن تيار سياسي عريض ظهر في أوساط الأميركيين البيض تحت شعار مناهضة "الأوبامية" ومحو أثرها والانقلاب على ما تعتبره إنجازات تاريخية للحركة التقدمية في الولايات المتحدة بدءاً من "أوباما كير" (خطة التأمين الصحي الحكومية) وسياسات الهجرة واستقبال اللاجئين وصولاً إلى السياسة الخارجية وإعادة خلط أوراق التحالفات والعداوات، وبالتالي إلغاء الاتفاقيات الدولية التي وقعتها إدارة أوباما مع الصين وكوبا وإيران. كذلك لا تخفي "الترامبية" نزعتها العنصرية وتبنيها ثقافة الرجل الأبيض المحافظة وحذرها الشديد من الأقليات وقلقها من تحول الأكثرية المسيحية الأوروبية البيضاء في الولايات المتحدة إلى أقلية بعد عقود قليلة بسبب اختلال الميزان الديمغرافي الأميركي لصالح الأقليات من الأصول الأفريقية واللاتينية والآسيوية.



في المقابل، تعتبر "الأوبامية" امتداداً لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة ومحطة في النضال من أجل مكافحة العنصرية ضد السود والأقليات. لكن المفارقة أن انتخاب أوباما عام 2008، الذي اعتبره البعض مؤشراً على شفاء المجتمع الأميركي من آفة العنصرية، تسبب بانفجار عنصري مقابل، إذ بات البيض في أميركا هم أيضاً عرضة للتمييز العنصري، أو على الأقل، هذا ما شعروا به خلال عهد أوباما حسب إحصائيات مراكز الأبحاث الأميركية.

يُضاف إلى ذلك أن الاحتقان العنصري بين الأميركيين البيض والسود انتقل إلى الشارع، وهو ما تُرجم في التوتر بين رجال الشرطة البيض والشبان السود، الذي بلغ حد استخدام السلاح والقيام بما هو أشبه بـ"حرب العصابات" ضد الشرطة الأميركية على غرار ما شهدته مدن أميركية عدة، خصوصاً مدينة دالاس. وسجل في دالاس قتل شاب أسود مسلح لخمسة من رجال الشرطة البيض انتقاماً للشبان السود الذين سقطوا برصاص الشرطة خلال الفترة الماضية.
في ظل هذه الأجواء، يترك أوباما البيت الأبيض في الأيام القليلة المقبلة ليتوج ترامب رئيساً للولايات الأميركية المقسمة حسب الانتماءات العنصرية والدينية للمواطنين. ينهي أوباما ولايته، وهو في ذروة شعبيته بين السود والأقليات الأخرى، بينما تنطلق ولاية ترامب بزخم شعبي وتأييد واسع بين الأميركيين البيض وتشكيك بشرعية انتخابه من أنصار هيلاري كلينتون مرشحة الحزب الديمقراطي التي خسرت الانتخابات على الرغم من حصولها على تأييد أكبر في التصويت الشعبي.

وعلى الرغم من استبعاد أن يؤثر الاستقطاب بين البيض السود على سلمية انتقال السلطة من الرئيس الأسود إلى الرئيس الأبيض، فإن الاحتقان العنصري المتفاقم بين المجموعات التي تؤلف المجتمع الأميركي لا يوحي بأن التحولات المنتظرة بعد العشرين من شهر يناير/كانون الثاني الحالي ستمر أيضاً بسلام.

"أوباما كير"

تعتبر خطة التأمين الصحي الحكومية المعروفة باسم "أوباما كير" الملف الخلافي الأبرز بين الإدارة الأميركية الحالية وبين الإدارة الجديدة وإلى جانبها غالبية جمهورية في الكونغرس باشرت إجراءات إلغاء الخطة الصحية التي يستفيد من خدماتها أكثر من 20 مليون أميركي. لكن الإجراءات تواجه صعوبات إدارية وتنظيمية ومالية، إذ توقعت أرقام رسمية أن ترتفع الرسوم التي يدفعها المشتركون نحو 25 في المائة.
وتعرضت خطة "أوباما كير" طوال الفترة الماضية لانتقادات واسعة من قبل الجمهوريين بسبب رفضهم لفكرة تدخل الحكومة لتأمين الطبابة والاستشفاء للمواطنين. وهؤلاء يفضلون ترك التأمين الصحي للقطاع الخاص والمنافسة. وبرأيهم، فإن فتح مجال المنافسة أمام شركات التأمين سيُخفض الرسوم عن كاهل المشتركين من العمال والموظفين محدودي الدخل مع المحافظة على جودة الخدمات الطبية وترك الخيارات مفتوحة أمام العائلات الأميركية لاختيار نوع الطبابة الذي تريد من دون أي تدخل حكومي.
قرار إدارة ترامب بإلغاء "أوباما كير" أمر مفروغ منه بسبب رمزيته في معركة محو إرث أوباما من المشهد السياسي الأميركي.
يضاف إلى ذلك أن معارضة جمهور واسع من الأميركيين البيض لأوباما كير هو رفض لتخليد اسم أوباما من خلال خطة الإصلاح الصحي. وبالتالي فإن مسألة إلغاء خطة التأمين الصحي لا تتعلق فقط بحساسية الموقف الجمهوري التقليدي من مسألة حجم التدخل الحكومي في حياة المواطنين وخياراتهم الفردية بل هي حاجة سياسية لتهدئة غضب الأوساط اليمينية المتشددة والمجموعات العنصرية المتطرفة التي ترى في إلغاء الخطة الصحية الحكومية "انتقاما وثأراً" من عهد أوباما برمته.
ويقرّ أول رئيس أميركي من أصول أفريقية بأن العنصرية في أميركا بلغت ذروتها في عهده، لكنه يحمّل الجمهوريين المتشددين مسؤولية إثارة المشاعر العنصرية منذ وصوله إلى البيت الأبيض ومعارضة سياساته من خلفية عنصرية.

وفي السياق الداخلي أيضاً، يراهن المحافظون على تعيين ترامب لشخصية متشددة في المقعد التاسع في المحكمة الأميركية العليا، الذي لا يزال خالياً منذ وفاة القاضي سكاليا العام الماضي، من أجل خوض معركة تشريعية ضد القوانين التي صدرت في عهد أوباما، ويرى المحافظون أنها تمس الحريات الدينية للأميركيين مثل قانون زواج المثليين وقضايا الأمومة والإجهاض.


في الخارج " أميركا أولاً"

في الملفات الخارجية، قد تكون سياسة الانقلاب على إرث أوباما أكثر صعوبة لكون السياسات الخارجية الأميركية تحكمها بالدرجة الأولى قضايا الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.
ولم يخرج الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض عن الالتزام بالسياسات التي يرون أنها تحمي الولايات المتحدة وتحقق مصالحها السياسية والاقتصادية في العالم.
لكن ذلك لا يعني عدم وجود خلاف في وجهات النظر وفي المقاربات حول سبل الوصول إلى أهداف حماية الأمن القومي وصيانة المصالح الأميركية، وأداء دور قيادي في السياسات الدولية.
وتختلف مقاربة ترامب للعلاقة مع روسيا عن مقاربة أوباما. وكذلك الأمر بالنسبة للعلاقات مع الصين وإسرائيل والقضية الفلسطينية وإيران وحروب الشرق الأوسط من سورية إلى العراق واليمن. ولا يحظى موقف الرئيس المنتخب من قضية التجسس الروسي ومقاربته للعلاقة مع موسكو بتأييد الغالبية الجمهورية في الكونغرس. كما يواجه انتقادات الديمقراطيين لما يعتبرونه علاقة مشبوهة بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
غير أن العقدة الأكبر في هذا الملف ستكون بين ترامب والأجهزة الأمنية الأميركية التي أجمعت تقاريرها على وقوف روسيا وراء هجمات القرصنة الإلكترونية التي تعرضت لها شبكة الإنترنت الأميركية خلال الأشهر الماضية فيما لا يزال الرئيس المنتخب يتجنب توجيه الاتهام إلى موسكو حصرياً، وإن كان يقرّ بوجود هجمات إلكترونية روسية يضعها في سياق ما تتعرض له الولايات المتحدة منذ سنوات من حرب إلكترونية تشنها روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية. وكان لافتاً إعلان ترامب بعد تسلم تقرير أجهزة الاستخبارات الأميركية عن عمليات التجسس الإلكتروني الروسية أنه بصدد تشكيل فريق أمني جديد مهمته التصدي للخطر "السايبيري".
وقد وجه الرئيس الأميركي المنتخب انتقادات علنية لوكالات الأمن الأميركية، إذ وصف قبل أسبوعين تقريراً لوكالة الاستخبارات الأميركية المركزية عن التدخل الروسي في الانتخابات بـ"السخيف". واتهم بعض الأجهزة الأمنية، ومنها وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" بأنها تحولت إلى أداة سياسية تستخدمها إدارة أوباما للنيل من فوزه الانتخابي. كما يشكك ترامب بالقدرة التكنولوجية على كشف هوية القراصنة الذين تمكنوا من اختراق أنظمة الكومبيوتر في اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي والبريد الإلكتروني للحملة الانتخابية لكلينتون. لكن المواجهة القائمة حالياً بين الأجهزة الأمنية وفريق الرئيس المنتخب لن تستمر طويلاً بعد عملية انتقال السلطة وتسلم المسؤولين الجدد الذين عينهم ترامب لإدارة وكالات الأمن الأميركية.
وينظر الرئيس المنتخب إلى سلسلة القرارات الأخيرة التي اتخذها الرئيس المنتهية ولايته، خصوصاً قرار فرض العقوبات على روسيا وعدم استخدام الولايات المتحدة لحقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي ضد قرار تجميد الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، على أنها محاولة أخيرة من أوباما لوضع العوائق والصعوبات أمام خطط الإدارة الجديدة لإعادة رسم السياسة الخارجية الأميركية وفق رؤية جديدة تقطع مع السياسة التقليدية الأميركية التي قامت في العقود الماضية على نظرية العداء بين البلدين.

لكن ترامب يدرك صعوبة الالتزام بالعهود التي قطعها على نفسه خلال الحملة الانتخابية. كما يدرك أن ما قبل الوصول إلى البيت الأبيض ليس كما بعده، خصوصاً أن تجربة أوباما في البيت الأبيض خلال السنوات الثماني الماضية ووعوده الكبيرة التي لم تتحقق ماثلة أمام الرئيس الجديد.
وعلى الرغم من التناقض الحاد الظاهر بين خطابي ترامب وأوباما، إلا أن ثمة الكثير من القواسم المشتركة في سياساتهما وخطابيهما على الأقل قبل الدخول إلى البيت الأبيض. وكان أوباما من دعاة التعاون مع موسكو وإدارة الرئيس فلاديمير بوتين عند انتخابه عام 2008 وموقفه المهادن للتدخل العسكري الروسي في سورية لا يختلف كثيراً عن وجهة نظر إدارة ترامب التي تنوي حل المسألة السورية عبر تعاون أميركي أكبر مع موسكو.
كذلك الأمر في العلاقة مع إسرائيل، إذ حرصت ادارة أوباما على تسجيل أرقام قياسية في تقديم المساعدات الأميركية العسكرية والاقتصادية لإسرائيل بشكل غير مسبوق في الإدارات الأميركية السابقة. لكن كل هذا الدعم لم يفلح في تغيير موقف حكومات الاحتلال من الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإعطاء فرصة لإحراز تقدم في عملية السلام في الشرق الأوسط.