التراث والقومية العربية... الصلات المؤكدة

31 يوليو 2015

ميشيل عفلق.. وعي العلاقة المتينة بين العروبة والإسلام

+ الخط -
جاءت المقالات والردود التي نشرتها الحركة الإسلامية في سجالها مع حزب التجمع الوطني الديمقراطي، في الداخل الفلسطيني، في صحيفة "صوت الحق والحرية" (تصدر في الداخل الفلسطيني)، متنوعة ومحيرة للذائقين، حيث تراوحت بطعمها بين المر والحامض والحلو. لذلك، هي وإن كانت بمجملها لا تسمن، لكن بعضها مؤكد أنه بداية طيبة قد تغني عن بعض جوع ساحتنا في فلسطين 1948 لحوار مسؤول وعقلاني. 
وما دمنا متفقين، كل وفق منظوره، حول ضرورة الالتزام بقاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المنافع"، فإن الواجب الوطني والأخلاقي يحتم على جميع الفرقاء العمل الفوري والصريح، باتجاه محاصرة أجواء التوتر، وتفريغ شحناته العدائية الهدامة، كي لا ندفع ببيتنا المشترك إلى مناطق غير محسوبة، فنصبح على ما فعلنا نادمين.

دعوة إلى حوارات فكرية نقدية
وإذا كان لا بد من زيادة في التوضيح، أقول إن دعوتي هذه لا تعني مطالبة الطرفين بالدخول في حالة صمت تصالحي، بل هي دعوة إلى مزاولة حوارات فكرية نقدية منفتحة ومنضبطة، تحترم الآخر، وتتناول بجدية جوهر الخطاب الديني والوطني العلماني، استحقاقا ضرورياً لتأمين مناخات مؤازرة للإثراء المتبادل، والمساهمة في اعتصار التجربة الفريدة واختمارها لمسيرتنا النهضوية والكفاحية.
مراكمة هذه الإجراءات المعرفية المتعقلة، واستدخال معانيها، والتقاط رسائلها، تمثل شرطا حاسما في حماية أجيالنا الصاعدة من لوثة الضياع، وضرورة قصوى في عملية بلورة المتخيل المشترك لهوية مجتمعنا الفلسطيني العربي ومستقبله. من هنا تحديدا، تأتي أهمية المناقشة التي سأعرضها حول فهمنا لموضوعة القومية ومعنى التراث، وهي في جوهرها موجهة إلى كوادر الحركات الإسلامية والوطنية وجمهورهما على حد سواء.
قال حكيم: "أوثق وسيلة للحط من فكرة سياسية جديدة والإضرار بها، هي بالإفراط في تضخيمها، والسير بها إلى حد السخافة، باسم الدفاع عنها". هذا حالنا وهذه حقيقة غفلتنا الكبرى التي لا تكاد ترى أن التعصب الفئوي الأعمى والتشدد الفكري، بالإضافة إلى خلط وتخريب دلالات وحدود المصطلح والشعار، بقصد الاستثمار السياسي، قد شكلت أهم مصادر الخطر على لحمتنا الوطنية، ووعينا الجمعي. وبطبيعة الحال، لم يسلم روادها أنفسهم من تبعاتها وأذاها الشامل. فلطالما خذل النشطاء العلمانيون والإسلاميون مشروعهم الأهم، عندما انبروا برعونة الثملين لإحراق الأخضر واليابس دفاعاً عن "مقدس" وهمي، صنعوه بأيديهم، أو ورثوه عن آبائهم الحزبيين، ثم ما أن يدور دولاب الزمن دورته الكاملة، حتى تختفي آثارهم، وينقطع صوتهم ويلفّهم الندم والحسرة. ولكن، بعد خراب البصرة.

"الإسلام هو الحل" أزاح "الإصلاح هو الحل"
هذا ما علمتنا إيّاه التجربة وشهدناه عند القومي والشيوعي والإسلامي المتشدد الذي لا ينفك يرقص على إيقاع الشعار وبريقه، دونما تفكر وتدبر لمعناه. ولأنني، هنا، بصدد مناقشة الإسلامية حصرا، ومن باب توضيح مقصدي، أدعو القراء الكرام للتأمل، مثلاً، بشعار "الإسلام هو الحل" الذي ابتكره خالد الزعفراني، أحد قادة الإخوان المسلمين في مصر في أواخر السبعينيات، حيث انتشر في المحافل الشعبية، وأزاح للخلف شعار المؤسس حسن البنا "الإصلاح هو الحل"، ليتحول إلى الشعار الأبرز في التأليب على الخصوم العلمانيين، حتى صار مجرد الاعتراض عليه بوصفه توظيفاً سياسياً للدين، يعتبر نوعاً من التطاول على العقيدة، هذا إن لم يكن الكفر بعينه. أما الزعفراني فقد انشق عن الإخوان الذين ارتضوا، لاحقاً، بدولة مدنية حديثة، وصار شعار "الإسلام هو الحل"، بنظر المفكر الإخواني التونسي التنويري، عبد الفتاح مورو، "شعاراً فارغاً درج على ألسنة الشعوب، وعلى ألسنة قادة الحركات الإسلامية، من دون وعي بمضامينه، وهو يشبه شخصاً مريضاً يأتي للعلاج، فيقال له إن الطب هو الحل"، على حد قوله.
وهكذا أيضا شأن شعار "دولة الخلافة"، حيث يقول: "حرص الإسلاميون على الغرق في مفهوم الحاكمية، وهي قضية جزئية، ظهرت إلى العلن في سياق سقوط الخلافة الإسلامية، بل تم تضخيمها، وأصبحت قضية القضايا لدى إخواننا". وفي وسعنا أن نضيف أن التأكيد المفرط في طلب دولة الخلافة والترويج الشعبوي لأهميتها دينيا في اكتمال دار الإسلام ودولة الشريعة، كان عاملاً فكريا مهما في ظهور التيار الداعشي الذي ذهب بها إلى نهاياتها القصوى، جاعلا منها الركن الرئيسي لبرنامجه التطبيقي.

لم تتوقف ملاحظات شيخنا وغيره على المسائل العامة، بل تعدتها إلى تسجيل نقد لاذع لمسيرة التيار الإسلامي، معترفا بخطأ الإسلاميين في قراءة النص والواقع معا، وداعيا إلى مزيد من التنسيق والشراكة مع اليسار والقوميين، من أجل الوطن، ومناشدا الشباب تبنّي قراءة تجديدية لنصوص الإسلام. فهل يمكن، بعد ذلك، اتهام هؤلاء المفكرين بالعداء للإسلام، كما يحلو لبعض قياديي الحركة الإسلامية ممارسته، رياضة صباحية ملزمة؟

نعتمد على سعة صدر النص
لهذا، ولمن يتساءل، باستخفاف مريب، حول ما إذا كان أبناء الحركة الوطنية يتحدثون عن الدين نفسه، أو أنهم "طوروا دينا جديدا"، نقول إننا نعتمد في مواقفنا على سماحة الإسلام، وآراء أبرز مفكريه المتخالفين مع التأويل النمطي التقليدي، وعلى سعة صدر النص وحكمته، وليس على من ينصّب نفسه حارسا عليه من دون جدارة، ونذكّره بأن الخطاب الأصولي المتشدد عندهم يستعير معنى آخر للنص، مخالفاً معناه التراثي الحقيقي، ويوظفه في صولاته السياسية، على نحو يجعله متأخراً، حتى عن روح العصر الإسلامي الأول.
في هذا الخطاب، يصبح مفهوم مقولة "لا اجتهاد في النص" حابساً انطلاق الفكر وكاتما للصوت والإبداع، باعتبار أن كلمة "النص" تأخذ عندهم معنى شاملاً، على عكس ما يظهره تراثنا الذي انبنى وتنوع جوهره من خلال حواره مع النص. فالقصد التراثي للنص انحصر بالذي لا يحتمل إلا معنى واحداً (أي قطعي الدلالة والثبوت)، وهي أمور قليلة جدا في القرآن الكريم، بينما تقع غالبية المسائل القرآنية في أبواب أخرى، وفقا لدرجات وضوحها الدلالي.
وغني عن التوضيح أننا لا نقصد بمصطلح التراث المفهوم الضيّق الذي يشاع عبر الفعاليات التي تقف وراءها وزارة المعارف والثقافة، وبعض الأطر العربية اليهودية المشتركة، والتي تحاول خلالها بدهاء إقناع شبابنا باقتصار تراثنا على الدبكات الشعبية والطبخ ولقاءات الحدائين وبيوت الشعر وبعض الأدوات التي استعملت في سياق تطور مجتمعنا.

تراث المجتمع
التراث كما نفهمه، هو مجموع ما أنتجه النشاط الإنساني لمجتمعنا العربي الإسلامي في سياق تطوره التاريخي، بحيث يشمل، أيضاً، النتاج المادي، لكن الأهم أساسا ما يقابله من مرجعيات قيمية مؤسسة، ومن نتاج عقلي ثقافي، في مجال الفكر والفلسفة والأدب والعلوم والسياسة والاقتصاد إلخ، وعلى قواعدها المميزة تشيد نهضة الأمم، وهو ما سأحاول تبيانه لاحقا. إذاً، التراث، بهذا المفهوم، لا يتناول الدين من ناحية ثوابته المعتقدية، وإنما من حيث علاقته ودوره وتفاعله مع الحياة الواقعية لمجتمعنا في سياق مشروع نهضته. من هنا، ليس تراث المجتمع العربي الإسلامي إسلاميا بالمعنى الحرفي للكلمة، أي أنه ليس تراث الدين الإسلامي، وإنما هو تراث المجتمع الذي نشأ الإسلام في كنفه، وشكّل به فضاءه الفكري والأخلاقي، فأغناه وقفز به إلى الأمام، فاتحا ذراعيه للثقافات الأخرى وللتجدد. فهو لذلك تراث العرب المسيحيين وغير المسلمين ممن عاشوا في داره وظلاله، وأسهموا في حراكه. والقومية العربية، كمفهوم اجتماعي تاريخي وسياسي، ثمرة لذلك المشوار الطويل لحضارة المجتمع العربي الإسلامي، أخذت شكلها الراهن قومية عربية، منطقها الداخلي وأدواتها والكثير من أيديولوجيتها، من المنابع التراثية تلك. فهي إذا وجه آخر للإسلام، المجتمع والتراث، تربطها به علاقة جدلية لا انفصام ولا فكاك منه. أما التناقض البنيوي الذي يحاول السلفيون خلقه بينهما، فما هو إلا تعبير عن تناقض في وعيهم الداخلي.
تبدو هذه الحقائق الأساسية غائبة عن نظر الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني. لهذا، نجدها تنكر على التيار القومي حقه في البحث والتعاطي النقدي مع موضوعة التراث، بادعاء أنها مسألة وثيقة الصلة بالدين، ولا يجوز ذلك إلا لأصحاب التيار الديني. لهؤلاء نقول بصدد التساؤل حول كيف ينبغي أن نتعامل مع تراثنا الفكري، نسأل أنفسنا سؤالا آخر، ولكن، بصورة غير مباشرة، هو: ما موقفنا من الحداثة وإنجازات العصر؟ وكيف يمكن لنا الخروج من الهامش، أي أن التساؤل الآخر (موقفنا من الحداثة والعلمنة) هو بالذات الذي يعطي قضية التراث هذه الأهمية المضخمة. فلولا وجود هذا التحدي الوافد إلينا من خارج وعينا (أي الغرب)، لأصبحت حدود المسألة التراثية مفهومة ضمنا وصراحة، كما حال المجتمعات الغربية، ولما تمتعت بهذا القدر من اهتمام الباحثين، ولما أصبحت القضية الأساس التي تتمفصل حولها كل صراعات التيارات الفكرية المعاصرة، حتى باتت تعرف في قاموس الفكر بـ"إشكالية الأصالة والحداثة".

عليه، إن فهم المسألة التراثية وخصوصيتها، واكتشاف عناصرها الحية وتخليصه من مضادات التقدم، تمثل شرطا أوليا في تبلور شخصية مشروعنا النهضوي الجامع. هذا ما ينبغي أن يبقى ماثلاً أمام نظر أبناء التيار الوطني العلماني الذي ينكر بعضه أهمية هذا الحقل في عملية صياغة قسمات وعينا، وتشكيل أدوات التغيير الفعالة في حركة انعتاق مجتمعاتنا العربية من براثن التخلف والتشتت. يعتبر انتماؤنا الجذري لهذه البيئة وثقافتها والتعمق الواعي بفهم محدداتها مسألة مبدئية في تصوراتنا السياسية، وفي مهمة تنشئة أجيالنا، وليس لغرض التحايل والمقارعة، كما يطيب تكراره لدى بعض الأوساط الإسلامية. يتعين على أصحاب التوجهات التغريبية والعدمية في التيار العلماني الوطني أن يتذكّروا ويتعلموا مما خبرته حركة اليقظة العربية من نماذج فكرية عدمية (يعقوب صروف وشبلي الشميل وإسماعيل مظهر وغيرهم) والتي انبهرت فاندفعت، من دون رادع، باتجاه التبني الكامل للنموذج الغربي على حساب الموروث الثقافي العربي الإسلامي، حيث عبرت عن حالة تنكر واستسلام شاملة، فكان مآلها الفشل المدوّي والمحتوم.

ميشيل عفلق: الإسلام ثقافة قومية
كانت الحركة القومية العربية، ومنذ انطلاقتها، واعية للعلاقة المتينة بين العروبة والإسلام، وخير ما يمكن الاستشهاد به ما كتبه المفكر العروبي، ميشيل عفلق، في ذكرى المولد النبوي الشريف عام 1943، عن الخصوصية الاستثنائية للقومية العربية بارتباطها الوثيق مع الإسلام، خلافا لطبيعة القوميات الأوروبية. وعذرا على الاقتباس المطول، لأنني أعتقد أنه نص مؤسس قد يغنينا عن التخريصات المتداولة في السجالات الحزبية، فكل كلمة فيه قد تسهم في الإفصاح عن حقائق مهمة، غيبها دخان المعارك العبثية بيننا:
"الفكرة القومية المجردة في الغرب منطقية، إذ تقرر انفصال القومية عن الدين. لأن الدين دخل على أوروبا من الخارج، فهو أجنبي عن طبيعتها وتاريخها، وهو خلاصة من العقيدة الآخروية والأخلاق، لم ينزل بلغاتهم القومية، ولا أفصح عن حاجات بيئتهم، ولا امتزج بتاريخهم، في حين أن الإسلام بالنسبة إلى العرب ليس عقيدة آخروية فحسب، ولا هو أخلاق مجردة، بل هو أجلى مفصح عن شعورهم الكوني ونظرتهم إلى الحياة، وأقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم التي يندمج فيها اللفظ بالشعور والفكر، والتأمل بالعمل، والنفس بالقدر. وهو فوق ذلك كله، أروع صورة للغتهم وآدابهم، أضخم قطعة من تاريخهم القومي، فلا نستطيع أن نتغنى ببطل من أبطالنا الخالدين بصفته عربياً، ونهمله أو ننفر منه بصفته مسلما. قوميتنا كائن حي متشابك الأعضاء، وكل تشريح لجسمها وفصل بين أعضائها يهددها بالقتل، فعلاقة الإسلام بالعروبة ليست إذا كعلاقة أي دين بأية قومية. وسوف يعرف المسيحيون العرب، عندما تستيقظ فيهم قوميتهم، يقظتها التامة، ويسترجعون طبعهم الأصيل، أن الإسلام هو لهم ثقافة قومية، يجب أن يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها، فيحرصوا على الإسلام حرصهم على أثمن شيء في عروبتهم. وإذا كان الواقع لا يزال بعيداً عن هذه الأمنية، فإن على الجيل الجديد من المسيحيين العرب مهمة تحقيقها بجرأة وتجرد، مضحّين في سبيل ذلك بالكبرياء والمنافع، إذ لا شيء يعدل العروبة وشرف الانتساب إليها".
هو اختصار بليغ لمفهوم وخصائص مشروع الحركة القومية العربية التي يكاد يجهلها حتى قوميون كثيرون، لكن الطامة الكبرى تتمثل في كيف تحول هذا الخطاب التوحيدي الراقي، في حساب المتعصبين في التيار الإسلامي، إلى طاغوت وشرك وأصنام ينبغي تحطيمها.

1C5AA4BC-F532-4286-A535-62F7FD36D8EA
عمر سعيد

من مؤسسي حركة أبناء البلد والتجمع الوطني الديمقراطي في فلسطين. باحث في مجال الصيدلة ومختص في التأثير الدوائي الأعشاب الطبية المستخدمة في الطب العربي الاسلامي، مهتم بنقد الموروث الفكري الاسلامي.