لم يكن فجر الجمعة في كوبنهاغن عادياً للسياسيين، يميناً ويساراً؛ ففي مبنى البرلمان، كان الجميع يترقب وصول رئيسة الوزراء المستقيلة الاشتراكية، هيلي تورنينغ شميت، من منزلها المتواضع. كلمات عاطفية وعاقلة ألقتها: هذا اختيار الشعب. أحترم خياره، تذكروا أنني أول رئيسة حكومة أنثى".
لم يخسر الحزب "الاشتراكي الديمقراطي"، بل زاد عدد مقاعده البرلمانية وتأييد النقابات العمالية له في الانتخابات التي جرت أول من أمس. لكن تحالفاته داخل البرلمان لا تمنحه 90 مقعداً من أصل 179، يحتاجها للاستمرار في الحكومة. كانت خسارة بطعم النصر. في الواحدة فجراً، تُعلن المرأة الأولى التي ترأست حكومة في تاريخ البلاد: أتحمل مسؤولية خسارة الحلفاء. ولهذا أعلن استقالتي من زعامة الحزب. لكنها أضافت "لن أكون المرأة الأخيرة التي تحقق النجاح"؛ إشارة فهمها المراقبون على أن ميتا فريدركسن، التي شغلت منصب وزيرة العدل؛ وهي نائبة زعيمة الحزب سيكون الاسم المقبل الذي يشغل الدنماركيين.
اقرأ أيضاً: اليمين يكتسح نتائج الانتخابات البرلمانية في الدنمارك
في مشهد ثان، داخل قاعة حزب "فنسترا" الليبرالي اليميني (وتعني الكلمة يسار نسبة إلى أن أعضائه يجلسون في ناحية اليسار داخل البرلمان)، يتقدّم زعيم المعارضة لارس لوكا راسموسن، ممسكاً بيد زوجته نحو القاعة وسط تغطية إعلامية ضخمة لكل حركة تصدر عنه. يُلقي كلمات مؤثرة يشكر فيها عائلته على دعمه العام الماضي، حين تعرض لأزمات أهمها تفتيش ملابسه ومصاريفه.
لقد وقف لارس لوركا خاسراً لانتخابات جعلت حزبه يتراجع 13 مقعداً، ومع ذلك اعتبر منتصراً. إذ إنّ كتلته، من الأحزاب اليمينية والمحافظة والليبرالية، هي التي تشكل تقليدياً الحكومات المحافظة بتحالف مع حزب المحافظين ودعم البقية برلمانياً، خصوصاً في ظل فوز حزب "الشعب" اليميني المتشدّد، الذي حلّ ثانياً بعد "الاشتراكي الديمقراطي" (47 مقعداً بواقع 925 ألف صوت)، متجاوزاً بـ37 مقعداً كل الأحزاب المحافظة، بما فيها حزب "فنسترا" الليبرالي (34 مقعداً، متراجعاً 13 مقعداً عن انتخابات 2011 التي خسرها معسكره).
معادلة صعبة بالنسبة لبرلمان منقسم بين كتلتين في أحزابه التسعة الفائزة؛ فراسموسن أصبح لديه "أخ أكبر" من يمين متشدّد في قضايا كثيرة تناقض التوجهات الليبرالية لحزبه وحزب المحافظين والتحالف الليبرالي.
وأحزاب اليمين ويمين الوسط ستكون بحاجة إلى التوافق الداخلي، قبل أن يذهب راسموسن إلى الملكة مارغريتا الثانية ليعرض عليها أسماء حكومته؛ عملية تحمل مخاطر كثيرة، أهمها أن يخاطر حزب "فنسترا" بالتحلل من الاتفاقيات التي وقعها مع الحكومة الاشتراكية، وهذا بحد ذاته يعتبر مخالفة سيكون لها ثمنها إن حصلت عند 684 ألف صوت اقترعوا للحزب.
يتساءل مراقبون محليون وأوروبيون: لماذا لا يدخل حزب "الشعب" اليميني في الحكومة؟ عن ذلك أجاب رئيس الحزب كريستيان ثولسن دال بالقول "نفوذنا أكبر من خارج الحكومة، خصوصاً بما حققناه من نتائج".
إذاً، هي معادلة "الابتزاز"، التي يستند إليها اليمين المتشدد في التفاوض على فرض شروطه الداخلية والخارجية. إذا ما أخذ بعين الاعتبار أن البرلمان يتشكل من 179 نائباً، وأنه يتعين على أي رئيس وزراء تتم تسميته لتشكيل حكومة أن يحظى بتأييد 90 نائباً، عندها سيكون لحزب "الشعب" اليميني بحصوله على 21 في المائة من أصوات الناخبين (أي 741 ألف صوت) كلمته في جر حزب "فنسترا" نحو سياساته. وبدون تلك الأصوات لا يمكن تشكيل أي حكومة.
سياسات متفاوتة داخل التحالف
تفترق أحزاب اليمين والمحافظة فيما بينها؛ فالحزب اليميني يريد إعادة تشديد الرقابة على الحدود، ووقف استقبال اللاجئين والمهاجرين وتخفيض الإنفاق في القطاع العام، والتحالف أكثر مع اليمين المتشدّد في البرلمان الأوروبي، وفرض ما يشبه تحفظات دنماركية على الاتحاد الأوروبي، واختيار النموذج البريطاني والتهديد بالانسحاب من منطقة اليورو.
كما أن التناقض مع سياسات أحزاب المحافظين الاقتصادية والاجتماعية والخارجية لن تسهل حكم راسموسن، سواء كان لجهة تشكيل حكومته، أو من جهة الوصول إلى توافقات تأتي بسلم السياسة الواقعية لينزل عنها؛ هو وحزب "الشعب" الدنماركي اليميني المتشدد لأسباب عدّة.
لارس لوكا راسموسن سيحاول ببراغماتية أن يمرر سياسة ترضي اليمين بالقول: سنحدّ من تدفق اللاجئين كي نتمكن من تنفيذ سياسة دمج حقيقية. لكن ذلك قد لا يعني مجاراة مطالب اليمين المتشدّد، لأن الدنمارك ببساطة، حتى لو خرجت من الاتحاد الأوروبي، لا تستطيع أن تقفز عن معايير محددة أو عن التزامات دولية بخصوص الأقليات والمهاجرين وطالبي اللجوء".
من جهة ثانية، قد يحصل توافق لتشديد القوانين، لكن ذلك لن يكون مرضياً عنه أوروبياً ولا في دول الجوار كالسويد؛ إذ إنه يعني التحلل من التزامات تُلقى على الدول الأخرى كألمانيا التي لن تكون معجبة بحكومة تستند في قاعدتها على حزب متطرف تجاه الاتحاد الأوروبي.
اليسار يراهن على الوقت
وتراهن أحزاب اليسار ويسار الوسط على عامل الوقت، ومما لا شك فيه أنهم لن يجلسوا مكتوفي الأيدي، إذا ما قامت أية حكومة مقبلة بتهديد الوضع الاقتصادي بسياسات ليبرالية ورأسمالية؛ فسلاح الإضرابات والشارع يبقى بيد النقابات واليسار، كما كان عادة كلما كان المحافظون يتجاوزون حدود الحفاظ على دولة الرفاهية التي تُبنى وفق نموذج اسكندنافي خاص يخلط بين الاشتراكي والرأسمالي.
ولعل ما يدفع هؤلاء إلى المراهنة على عامل الوقت، هو أن حكومة يمينية متشددة يعاني معسكرها، بل وأحزابها، من تناقضات داخلية كثيرة، لن تعمر طويلاً؛ وربما يضطر راسمسون في حال شكل الحكومة إلى الذهاب لانتخابات مبكرة قبل مرور 4 سنوات على حكمه. وقد يشتد الضغط على حزب "الشعب" حتى من داخل قواعده ومن الأحزاب المحافظة للمشاركة في الحكومة، بدلاً من حالة الابتزاز والضغط التي يمارسها من الخارج. رغم أن لعبته المفضلة منذ 20 عاماً هي الإمساك بخطوط الضغط.
العلاقات الخارجية
تبقى العلاقات الخارجية، خصوصاً مع دول الشمال وألمانيا، أحد أهم المعوقات التي لن تقبل دول، مثل السويد، أن يمارس اليمين المتشدد والمحافظون في الدنمارك، سياسة فرض النموذج عليها؛ فحزب "ديمقراطيي السويد"، الحليف لحزب "الشعب"، و"الجبهة الوطنية" الفرنسية واليمين الأوروبي عموماً، سيرى في تقدم اليمين الدنماركي فرصة للدفع نحو انتخابات مبكرة. لكن ذلك ليس بالأمر اليسير في بلاد تحكمها ثقافة سياسية بوجه إنساني، يختلف جذرياً عن فكرة الانغلاق والفرز العرقي واإاثني التي يريد يمين الدنمارك المتشدد فرضها حتى في البرلمان الأوروبي.
يبقى أن الأيام المقبلة ستحمل الإجابات حول مدى تماسك "الكتلة الزرقاء"، التي يظن لوكا أنها أنقذته من الهزيمة الأكبر في تاريخ حزب عريق.
اقرأ أيضاً: انتخابات الدنمارك تحسم الجدل حول الاقتصاد والمهاجرين