التحديق في الموت

30 مارس 2017
ناجية ميحادجي/ المغرب
+ الخط -

لا يتيح الموت لضحاياه، في أحيان كثيرة، فرصة للتأمل في هذا العبور النهائي. يختار أن يكون فجائياً وحاسماً. ولكنه في أحيان كثيرة أيضاً يمهّد لنفسه ويُفرغ الحياة من ضحيته قطرة قطرة، دون اعتبار للسنين، حتى يغدو مآلاً مشتهى ومرغوباً، ولو في أول العمر. وليس قليلاً أن ينأى الموت عن ضحاياه طويلاً، محرّضاً فيهم الشوق إليه. وكأن تراكم السنين على عاتق الحي يغذي فيه السأم، على ما يقول الشاعر الجاهلي، أو الفضول والشوق لما وراء هذا الحاجز الكتيم الأصمّ اللانهائي. من يموت بالسيف ليس كمن يموت بغيره، ليس الموت واحداً. تتعدّد الأسباب ويتعدّد الموت أيضاً.

في قصة أميركولاتينية طريفة، يلاحق الموت امرأة تخطّت الثمانين وظهر اسمها على قوائم الموت. لكن الدوام اليومي لملك الموت ينتهي دائماً قبل العثور على الجدّة. في البيت يقولون له إنها في الحقل، وفي الحقل يقولون له إنها ذهبت إلى الغابة، وهناك يقولون له إنها ذهبت إلى النبع، وحين يدركها عند النبع، يكون دوامه اليومي قد انتهى، فيقترح عليها أن يحمل عنها الجرّة إلى البيت، بعد أن قضت سحابة نهارها وهي تعمل، ولا شك في أنها متعبة. فتجيبه دون أن تدرك من هو: أيها الرجل الطيّب، لست أنت من يستطيع إراحتي. إن الموت وحده هو من يستطيع أن يريحني بعد هذا العمر، وإني لأنتظره.

ليس موت الجدّة التي تنتظر الموت، كموت الشاب الذي ينتظر المشنقة. المشنقة! تسقط الكلمة في النص قسراً. لا قدرة لكاتب أن يهرب من الكلمة التي تملأ الطريق الذي اختار لنصه السير فيه. هل يمكن الكتابة عن الموت اليوم دون أن تملأ المشنقة النص؟

كتبتُ: "الشاب الذي ينتظر المشنقة". وما زلت أخشى تأمل هذه اللحظة. حين يختار الموت أن يقدّم لك النسخة الأقسى من نفسه، أن تكون شاباً سليماً بريئاً تنتظر موتك بعد لحظات معلقاً بحبل مشنقة.

من الخارج، سوف يبدو الأمر قاسياً ولكنه مألوف مع ذلك. شاب بريء يسوقه إلى الموت شنقاً حفنةٌ من الجلادين القساة. يمكن إضافة أوصاف شنيعة للجلادين وخشونتهم وموت إحساسهم وقسوة تصرّفاتهم. ويمكن الاستفاضة في التعاطف مع الشاب البريء. ويمكن، بلا شك، إدانة الحالة التي جعلت مثل هذا الأمر قابلاً للحدوث.

غير أن كل هذا يبدو مألوفاً من الخارج، لأنه يتاح لك، أنت "الخارجي"، أن تكرّر التجربة. الحدث يتكرّر، والخارج يراقب الحدث المتكرّر، والتكرار يخلق الاعتياد، ولكن فقط من الخارج.

من الداخل، لا مجال للتكرار. موتك لا يتكرّر. لا مجال لأن تصبح الحالة مألوفة من الداخل. بعد لحظات تدخل في العدم. على بعد خطوة واحدة تموت، بوضوح شديد وتأكيد أشد. موتك ملموس ووشيك إلى حد أن ذاتك الحية تشهده. إلى حد أن ذاتك الحية تشفق عليك، وتنظر إليك كراحل. كأنك تودّع نفسك بنفسك. كأنك تسبق نفسك إلى المشنقة وترى نفسك معلقاً قبل أن تعلّق.

كيف يدرك المرء هذه اللحظة من الداخل؟ ما هي الصور التي تعبُر مخيلته في تلك اللحظات؟ هل تبقى مخيلته قادرة على استعراض الصور؟ هل يخشى ألم المشنقة أكثر من موتها؟ أم ربما يشعر بالسخرية؟ يا لسهولة أن تتساعد هذه الأيدي اليابسة على إنجاز "قتلي"، قبل أن تنهمك بعد ذلك كل يد بشؤونها اليومية التافهة، تشعل سيجارة، أو تساعد على الاتكاء إلى حائط، أو على استطلاع الوقت، أو تتفقد الهاتف المحمول أو تنفض الغبار عن الملابس. إنها تواصل حياتها التافهة بعد أن قطفت حياة أخرى بكل بساطة واعتياد أو قل بكل "تفاهة".

ألا يشعر المرء بالدوار؟ حالة معكوسة للدوار الذي يصيب المرء حين يحاول أن يتخيل ما قبل وجود الكون. النقلة من العدم إلى الوجود. ثم من الوجود إلى العدم. كيف يستوعب المرء هذا العبور الذي لا يمكن عكسه، ولا يمكن قصّه لآخرين؟

لماذا لا تقاوم الضحية التفاف الحبل على العنق؟ لماذا تستسلم؟ هل يمكن أن نفهم نحن "الناجين" استسلام الضحية للمشنقة؟ أم أن لتلك اللحظة كيمياءها الخاصة التي لا يشعرها إلا من عبرها؟ ليس لنا إلا أن نتساءل. ولن ندرك الجواب إلا إذا عبرنا ذلك الممر الرهيب، الذي لا يمكن لنا بعده أن نبوح بما شعرنا به أو أدركناه.


* كاتب سوري

دلالات
المساهمون