التباسات الخطاب السلطوي والمعارض

12 يوليو 2015
+ الخط -
يتلخص مآل إحدى أوّليّات وظائف الديكتاتور، كما يتراءى لي، في العمل على تهيئة الشروط الملائمة لتحويل كل فرد في المجتمع إلى ديكتاتور في حيز الكمون، وغالباً ما ينجح في ذلك، حتى مع معارضيه الداعين إلى مواجهة الديكتاتورية. ينجح بنقل العدوى إليهم، أو بسدّ جميع السبل أمامهم، على نحو لا يترك لهم أي مجال للمناورة، بعيداً عن طبيعته أو خارج اشتراطاته. وبالتالي، فإن الحَكَم الفيصل في هذا الأمر إنما هو القوة، والقوة ليست خارج حيز الأفعال، الداخلي والإقليمي والعالمي، كما أنها ليست خارج حيز الكمون في تلك المجالات أيضاً.
يحاول الديكتاتور سحق كل شيء يقف في طريقه، ما يعني أنه لا يترك للآخر أي فرصة سوى الانسحاق، أو المبادرة إلى سحق الديكتاتور بالطريقة نفسها.
تغدو هذه المقاربة العامة أكثر تعقيداً في البلدان العربية، إذ تبقى المسألة الوطنية، بالتباساتها وتلبّساتها القومية، إحدى أهم العقبات أمام المعارضة، ذلك لأن الخطاب الديكتاتوري قائم على ادّعاء الوطنية والقومية، وخطاب المعارضة أيضاً قائم، حقيقة وليس ادعاء، على الأساس نفسه. وما أسهل أن يلعب الديكتاتور في هذه المساحة الملتبسة!
هناك، في الحقيقة، التباسات أخرى في أهداف وشعارات كثيرة، من شأنها تعزيز وتأكيد ما أرمي إليه. هل هذا يعني أن تتنحّى المعارضة، أو القوى الديموقراطية، عن تلك المساحة الملتبسة؟

أستطيع الإجابة بنعم ولا في آن معاً، وذلك يعني إسقاط الخطاب الوطني الادعائي، وإسقاط الخطاب الوطني الطهراني في عالم لا مكان فيه لغير موازين القوى، شريرةً كانت أم خيّرة.
أتيح لي، في عام 1982، أن أشهد واحدة من حالات الالتباس أو الاختلاط في الخطاب الوطني القومي. في فبراير/شباط ومارس/آذار من ذلك العام، كانت بعض وحدات جيش النظام السوري، التي دمرت أجزاء من مدينة حماة، لا تزال في داخل المدينة وحولها، بل لا تزال تمارس قهرها وإذلالها ونهبها المدينة المنكوبة. وفي يونيو/ حزيران من العام نفسه، أي بعد ثلاثة أشهر من المجازر والتدمير والاستباحة لتلك المدينة، تجتاح إسرائيل لبنان، وتصل إلى بيروت، فيقوم النظام السوري بحركة "ذكية"، مدرِكة عمق المشاعر الوطنية والقومية لدى الشعب السوري، وذلك بإقدامه على سحب عدد من القطعات العسكرية التي تحاصر حماة، وتوجيهها إلى لبنان بحجة مواجهة الاجتياح الإسرائيلي. ولا داعي، هنا، للسؤال أو التساؤل عن أسباب عدم تفكير النظام السوري حينها، أو قبلها أو بعدها، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للجولان.
على الطريق من حماة إلى حمص إلى لبنان، كان السوريون يرشون الأرزّ على الوحدات المنسحبة من مجازر حماة، بدعوى مواجهة الاجتياح! لا أستطيع أن أقول للشعب السوري ولمعارضته: صحّ النوم. ذلك لأن النوم لم يصحّ أصلاً، بل كان عليلاً وكابوسياً ومرهقاً ومخجلاً.
لاحقاً تكرّرت فظائع النظام على أكثر من صعيد، غير أن النظام السوري بقي قادراً على التضليل والإخراس وخلق الالتباس لدى المجتمع والمعارضة، عبر خطاب جنوب لبنان أو الجولان أو فلسطين أو العراق أو حتى جزر القمر، إذ بقيت الوطنية والقومية تجارة رائجة في مجتمعاتنا العربية، حتى لو كان العرب عربين أو أكثر. أما الإنسان الفرد، بكينونته وحريته وكرامته المادية والمعنوية، فقد بقي خارج حسابات نفسه وحسابات الأنظمة والمعارضة، وأدنى من الحد الذي يقتضيه الوعي الديموقراطي الأصيل.
كان يكفي الأسد الأب أن يرفع شعاراً من مثل (وطن حرّ يعني مواطناً حراً)، أو من مثل (فلسطين أولاً والجولان ثانياً)، ليخرس السوريون الموالون والمعارضون، إذ لو لم يخرس أحدهم لَهبَّ في وجهه الطرفان أو جميع الأطراف. لم يستطع حينها المجتمع السوري أن يقول للديكتاتور الأب، بل (مواطن حرّ يعني وطناً حراً).

بعد أن تمكن الشعب السوري، في مارس/آذار 2011 من تحدي رُهاب الأسد الأب والوريث، حطّم تماثيل الأب ومزّق صور الابن، لكنه لم يتمكن من تحطيم الخطاب الذي كان سائداً على الصعيد الوطني والقومي وتمزيقه. ربما تغيرت الصورة نسبياً بعد افتضاح دور حزب الله في دعم الأسد الوريث. حزب الله الذي يرطن بما يرطن به نظام الأسد على صعيد المقاومة ومواجهة إسرائيل. إسرائيل التي اتضح أنها ليست على جنوب لبنان، بل داخل الأراضي السورية حصراً. في بداية الثمانينيات قلت: إن حزب الله هو الحزب الأكثر ظلامية في تاريخنا الراهن. هاجمني كثيرون ولم يوافقني إلا أفراد. لحسن الحظ أن الصورة تغيّرت الآن.
ولكن، على الرغم من كل تلك التطورات، ما زال الخطاب الوطني والقومي على عماه في ميادين كثيرة، على الرغم من الخطاب المختلف في بداية الثورة، وقد أضيف إليه خطاب طائفي لا يقل عمىً.
الخطاب الآن ملتَبَس ما بين الوطن والقومية والدين والثورة. وهناك متاجرون كثر بقيم جديدة، تشبه القيم التي دمّرها النظام، إلى حد صار كل متاجر يلجأ إليها مستخدماً تسميات تجارية مفرَغة المضامين، مثل: مشفى الشفاء، نادي الحرية، بقالة الكرامة، صيدلية الإخلاص، سمنة القدس، جمعية الوفاء، حلويات المحبة وإلخ.
ذلك يعني: تعالوا إلينا، يا مواطنين مفتقدين للشفاء والحرية والكرامة والإخلاص والقدس الشريف والوفاء والمحبة، فهذه الأمور التي تفتقدونها موجودة عندنا، لا عند غيرنا.
حسناً، هل هناك من سبيل إلى إلغاء تلك الالتباسات؟ هل في وسع الثورة والمثقفين والإعلاميين والسياسيين وغيرهم إلغاء تلك الالتباسات؟ إن نجحنا جميعاً في ذلك، بما يكفي لفك ارتباط كامل أو شبه كامل بين خطاب الديكتاتورية وخطاب من يريدون إسقاطها، سيكون أملنا كبيراً في مستقبلٍ سوري أقرب إلى ما نريد.



26E8FCFD-A6EB-4532-B194-817C35026BC9
فرج بيرقدار

شاعر وكاتب سوري مقيم في السويد، له مجموعات شعرية وكتابان عن تجربته في معتقلات النظام السوري، وكتاب في أدب الرحلة