البيطار ونيتشه: روابط في الفكر والموت

28 اغسطس 2014
إدوارد مونش/ النرويج
+ الخط -

ليس رحيل نديم البيطار في 25 آب/ أغسطس الماضي سبباً كافياً لنرثي نيتشه معه؛ الذي رحل في مثل هذا اليوم (25 آب/ أغسطس 1900). كلا الرجلين غادرا بهدوء على وقع عالم مشغول عنهما. في حالة البيطار، كانت مدافع الحرب في سوريا قد جعلت الرحيل السوري في حكم "العادي"، ليرحل دون ضجّة في مدينة ديترويت الأميركية. أما في حالة نيتشه فقد كانت أوروبا مشغولة بالهيغلية والكانطية حين غادر وحيداً من فايمار (شرق ألمانيا) دون أن ينشغل أحد برحيله.

ظروف الرحيل المشابهة وتاريخه أيضاً ليسا سببين كافيين لإدراج الرجلين داخل نص رثاء واحد، فثمة علاقة فكرية تبرر هذا الجمع. يتتبع الباحث هاني عوّاد في كتابه "تحولات مفهوم القومية" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2013) الأصل النيتشوي لمفهوم التاريخ عند نديم البيطار. يبدأ البيطار بتحرير التاريخ من أيّ غاية مفروضة عليه مسبقاً، ويفقده جوهره، ثم يبنيه مجدداً بما يخدم أيديولوجيته التوحيدية. ولهذا يرفض البيطار "التاريخ الكلّي" لصالح "التاريخ المتعدد"، ونعني بذلك أنّه لا يقع ضحية فرض شكل واحد لسريان التاريخ؛ وهو ما استقر على تخيّله بشكل خطي على خطى السير الأوروبي. وتشابهاً مع نيتشه، يعود البيطار إلى التاريخ من أجل أن يخدم الواقع لا أكثر. يقول نيتشه: "لا نريد خدمة التاريخ إلا قدر ما يخدم الحياة".

ينتمي البيطار إلى الجيل الثاني من القوميين ـ بحسب الدراسة سالفة الذكر ـ وقد قلب تصوُّر تشكُّل الأمة لدى القوميين الأوائل الذين افترضوا أنّ الأمة تخلق الدولة؛ بانتقاله من الدولة إلى الأمة، ومن الدولة أيضاً إلى اللغة، وشاهده على ذلك تجارب الأمم التي تقول إنّ الإرادة السياسية المتكئة على العنف قد جعلت الأمة ممكنة، وصنعتها بأدوات قهرية؛ مقلّمة بما تملك من سلطة محاولات التمرد عليها، وهي ذاتها الدولة التي جعلت اللغة الواحدة ممكنة بعد أن جعلتها رسمية. ويسرد البيطار بعض التجارب ليدلل على ذلك فيشير إلى دور العنف المركّز الذي فرضته العائلات المالكة في فرنسا وإيطاليا وروسيا وإسبانيا وهولندا والبرتغال وإنجلترا والصين، الخ.

يقول البيطار في إحدى مقابلاته: "إنّ العنف الوحدوي الذي أشير إليه كضرورة تفرض ذاتها وتقترن بالعمل الوحدوي السياسي، يرتبط بوضع معين هو توفر وضعية وحدوية يصبح فيها هذا العنف ضرورياً وفعالاً وشرعياً. هذا يعني، بكلمة أخرى، أنني لا أقول بهذا العنف في الأوضاع الحالية التي يسودها جَزْر وحدوي شديد، يكون دون فعالية وحدوية، هذا العنف ليس إذن عملاً اعتباطياً أو مستقلاً في ذاته؛ بل هو ثانوي يرتبط بدوره بوضع يقدم عليه، وهو لا يستطيع أن يكون خلاقاً في ذاته، بل يعتمد في ذلك على شيء آخر يعلو عليه ويبرره".

وإن كانت الأخلاق هي ما يقرره الأقوياء بعد فرضها بحركة تبدأ من رأس "إرادة الاقتدار" نزولاً إلى أسفل حيث الضعفاء- بحسب نيتشه؛ فإن الدولة في حالة البيطار لا تغادر هذا التصور، مع أنّ نيتشه يكره الدولة، وهو ما عبّر عنه بصراحة في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" (طبعة "منشورات الجمل"، 2007): "أيها الأصدقاء، كم أمقت الدولة"..."وذلك لأن الدولة حدها وحقيقتها أنها "عنف منظم"، وهو عنف موجه ضد الفرد المتميز أصلاً وبدءاً؛ أي أنها عنف خادم للجموع".

تحتاج عملية بناء الأمة وفق البيطار إلى ثلاث مقومات: الإقليم وشخصنة السلطة والخطر الخارجي الذي يعرّف "الآخر" ويجعل "نحن" أشد وضوحاً. وهذا ما يبسطه في كتابه "من التجزئة.. إلى الوحدة: القوانين الأساسية لتجارب التاريخ الوحدوية" (مركز دراسات الوحدة العربية، 1986).

ليست السلطة ولا الدولة هما ما يجب تقديسه بالنسبة للبيطار؛ بل "الأيديولوجيا الانقلابية"، وهي المهمة الرسولية التي وفقها تبرّر الدولة وجودها وغايتها، أما في ما يتعلق بالخطر الخارجي؛ فيشير البيطار أنّ وجود إسرائيل يمنحنا هذه الفرصة لتحديد "الآخر". من هنا تأتي مركزية قضية فلسطين، وهو ما لفت إليه  في كتابه "الفعالية الثورية في النكبة"، كونها الأساس الذي يعتمد عليه لتوفير "آخر" يؤسس عليه مشروعاً وحدوياً.

في الواقع، برزت سلطات عربية ترافقها "الأيديولوجيا الانقلابية"، إلا أنها سرعان ما انقلبت على أيديولوجيتها نفسها، حيث الثابت الوحيد هو السلطة نفسها، وهو ما فات البيطار التقاطه. لا تخدم السلطة شيئاً خارجها إلا بقدر ما يخدم هذا الخارج السلطة ذاتها، وهذا ما حدث لقضية فلسطين أيضاً، حيث بقدر ما حضرت على مستوى الشعار غابت على مستوى الممارسة، وكان حضورها يخدم السلطة ذاتها، إذ يؤجّل قضايا الإصلاح الداخلي بل ويخوّن من يطرحها، بحجة التهديد الخارجي.

لا تلتقي الدولة والثورة إلا على مستوى البلاغة، فمنطق الأولى هو نزوع مستمر لإعادة إنتاج الواقع، فيما منطق الثانية قطيعة مع ما سبق، وقلب لما هو قائم. لكن البيطار، ولغرض التخلص من العدمية النتيشوية، شيّد مشروعاً ثورياً انقلابياً وحدوياً تشرف عليه الدولة المرجوّة، بينما ترسم ملامحه "الإنتلجنسيا"، أي المثقفون الذين يتمتعون بحسّ نقدي وليسوا "كلاب حراسة" للأوضاع القائمة. والوصف ذاته نجده عند نيتشه للهيغليين ومن سماهم "شغيلة الفلسفة". لكن الدولة لم تعدم وسيلة في جعل "الإنتلجنسيا" تخدم وجودها، وفي حالات متقدمة تعرض على السلطة خدماتها حتى تضمن وجودها، دون أن يمنع ذلك أفراد "الإنتلجنسيا" من تقديم أنفسهم كمثقفين نقديين.

المساهمون