كانت بريطانيا تعيش بعد فترة الحرب العالمية الثانية فترة ما تشبه الكساد بسبب استمرار تهاوي إمبراطوريتها، وهذا عنى في تلك الفترة إغلاق المصانع وتأخير الإعمار، وظهور النظام الطبقي على أشدّه، إذ كانت الطبقة الحاكمة، ثم اللوردات من الطبقة البرجوازية، هما اللذان يسيطران على شكل الأسرة والمجتمع.
وجود طبقة معينة، يعني وجود طبقتها المضادة، وهي طبقة العمّال. من ليفربول، المدينة التي تأخر فيها الإعمار لأعوام كثيرة بعد انتهاء الحرب، ومن المدينة الشمالية التي تعرضت إلى ضربٍ ثقيل من القوات الألمانية، كان الوضع الاقتصاديّ فيها غير مُبشّر بالخير أبداً، ظهرت مجموعة من الشبان الذين درسوا في إحدى مدارس القواعد، والتي كانت تتاح لطلاب الطبقات العاملة، ليحصلوا على تعليم أفضل ولينضموا إلى طبقات أخرى. من هناك ظهرت البيتلز.
مجموعة من الشبّان الذين عاشوا المأساة في ذروتها. فراغ نفسي وروحي بعد الحرب العالمية الثانية، ومشاكل عاطفية وعائلية وكساد اقتصادي كبير. هذه كلها عناصر كانت سبباً في جعل البيتلز ما كانوا عليه. هذه المأساة هي ما أعطتهم حِس الأصالة في صوتهم وموسيقاهم والغضب المطلوب، ما جعل لأغانيهم بعداً آخر غير البعد الواضح والصريح لها.
فِي مجتمع تُسيّره الطبقة والنظام، كان ظهور هؤلاء الشبان الأربعة كسراً للنمط العام. قبلهم، كان النظام هو من يخرج المغنين والموسيقيين حسب ما يتوافق مع أهوائهم، فكان المغنون المشهورون، في تلك الحقبة، نموذجاً للشباب المُحترمين الذي فعلوا ما طلب منهم المجتمع أن يفعلوه، وأن يرتدوا الملابس المطلوبة، وأن يرتادوا المدارس المطلوبة، لكي يحققوا ما يرغبون بهِ.
إلا أن البيتلز، لم يحصلوا على قوتهم وشهرتهم من قنوات الإعلام الرسمي أو المجتمع الأبويّ، وإنما من حفلات الروك آند رول التي أقاموها في ليفربول، بداية ثم ألمانيا ثم عودة إلى بريطانيا (الشمال تحديداً)، وهذا ما أعطاهم فردانية وخصوصية تختلف عن أي فرقة غنائية أخرى، وهو ما حدا بصاحب محل موسيقى ريادي يدعى بريان إبستاين إلى الحديث معهم ليكون مدير أعمالهم، حيث توقع أن بإمكانه أن يقودهم إلى العالمية، ومن جملة ما قاله عنهم إبستاين: "إذا كانوا يريدون تغيير العالم، فأول ما ينبغي عليهم فعله هو تغيير مظهرهم"، وهو ما حدث.
كانت البيتلز وكيلة التغيير في المجتمع البريطاني، وكان هذا التغيير على عدة أصعدة. مثلًا، كانوا فرقة طليعية (طلائعية)، وكل شخوصهم وأعمالهم تجريبية ومُجددة، وكل إصدار لهم يكون فيه شيء جديد وأكثر قوة من سابقهِ، وكانوا متأثرين في بدايتهم بالحقد على نظام الطبقات، ثم ما لبثوا أن تأثروا بالحركة الهِبّية المناهضة لقيم الرأسمالية، وبعدها صاروا متأثرين بالروحانيات القادمة من الشرق (الهند)؛ فصار الشباب يطلقون شعرهم ليطول مثل شعر أعضاء الفرقة، وصارت الفتيات يرتدين التنانير القصيرة.
شكّل ومثّل شباب الفرقة عنصر الثقافة المضادة في المجتمع، الثقافة المضادة لكل ما هو تقليدي وعُرفي. قبلهم، كان على الشباب في عُمرهم أن يتبعوا خُطى أهاليهم في المصانع والأشغال والعامة وكان على الفتيات أن يبقين في البيوت، أو الذهاب إلى دروس تعلم الطبخ، ولكن معهم وبعدهم صار للشباب والفتيات أحلام وطموحات أخرى في أن يعملوا لوحدهم ليكون مصروفهم من جيبهم، وهو ما صنع لاحقاً ثقافة المجتمع الاستهلاكي في بريطانيا. صار بمقدور المراهقين والشباب أن يعلموا ويحققوا ذاتهم وبالتالي، صاروا يلبسون ما يريدون مهما كان مخالفاً أو مرفوضاً.
تأثير البيتلز على الموسيقى كان أكبر من غيرهِ على أي صعيد آخر، كان المغنون قبل البيتلز، يقومون بدورهم في الغناء فقط بمعزل عن باقي الأدوار، ولكن البيتلز، كانوا هم من يكتبون أغانيهم ويعزفونها ويغنونها، وهو ما أطلق حركة غنائية عملاقة على أثرهم، والتي لولاهم لما كنا لنشهد فرقا مثل الرولينغ ستونز والبيتش بويز، وبوب ديلان أيضًا، وغيرهم.
ما أعطى البيتلز الأفضلية على غيرهم، هو نجوميتهم وهم صغار، فكان الشباب والفتيان المراهقون في تلك الفترة يبحثون عن قدوة في مثل عمرهم، وقدوة تمثل حماس فترة المراهقة وغضبها وثورتها، وهنا جاءت البيتلز، كفرقة تغني عن كل ما يدور في خيالهم، سواء كان سطحياً أو ذا أبعادٍ أخرى. كانوا هم القدوة والأمل لجيل جديد من الشباب الذي كان قد فقد الأمل في قيادة أدخلته في حربين عالميتين وقيادة تخسر أذرع الإمبراطورية وقيادة ومجتمع يحاولان أن يجعلا منهم نسخاً من آبائهم.
كانت فرقة البيتلز نموذج الثورة على كل ما هو تقليدي في المجتمع. فرقة شابة تتصدر أرقام المبيعات بالملايين وحفلات موسيقية يحضرها آلاف الشباب والفتيان المراهقين، وهو ما أدى لاحقاً إلى ظهور مصطلح "بيتلمانيا"، ما يعني حماس الجمهور الشديد لرؤية فرقة البيتلز، وكان لهذه الظاهرة أعراض كثيرة، أهمها إصابة الفتيات المراهقات بنوبات هلع من شدة حبهن للفريق.
كانت حفلات البيتلز مليئة بصراخ الفتيات، وهو ما قال عنه أحد المُعلقين: "أصابوا الفتيات بهزّات جماعٍ هستيرية فقط بظهورهم وغنائهم". لاحقاً، كانت البيتلز أحد أسباب اندلاع ثورة الجنس في العالم الغربي، بين نهاية الستينيات وبداية السبعينيات. لم يعد من العيب أن تصرخ الفتاة أو أن ترتدي تنورة قصيرة أو ملابس ملونة.
في أحد اللقاءات التلفزيونية سُئل أحد أعضاء الفريق: "هل تصنفون أغانيكم تحت عباءة الروك آند رول؟"، فردت عليه الفرقة جماعياً، بأن أغانيهم تقع تحت عباءة الموسيقى وحسب، وليست تحت أي تصنيف آخر، وهو ما مثل جذوة قوتهم، حيث خالفوا كل ما هو معروف، وتجاهلوا ما يجب عليهِم فعله، ومشوا في طريقٍ خاصٍ هم من مهدوه لأنفسهم، هذا الطريق الذي يضع شيوخ المهنة في مكانهم الصحيح في الماضي، ليفسحوا المجال لجيل جديد شاب يتقد حماساً وطاقة للتغيير.
وما نلاحظه في البيتلز أيضاً، هو اختلافهم عما كان يظهر على التلفاز في فترة شهرتهم، فكانوا في المقابلات يكسرون الرسمية، وتجدهم يضحكون ويأخذون الأسئلة على محمل السُخرية، ويتعاملون بروح الطبقة العاملة التي أتوا منها، ولم يتظاهروا، ولو لحظةٍ، أنهم صاروا من طبقة أخرى ولم يتنكروا لأصلهم، وهو ما دفع جون لينون إلى أن يقول في أول حفلٍ مباشر تحضره ملكة بريطانيا للفرقة: "هل لي أن أطلب من الأشخاص في المقاعد الرخيصة أن يصفقّوا بأيديهم؟ والأشخاص في المقاعد الأمامية أن يخشخشوا بجواهرهم؟"، لم يستطع لينون أن يمنع نفسه من استغلال منصّته لانتقاد نظام الطبقات بحضور الملكة، وكان نقده قوياً جداً وذكياً، وفي نفس الوقت كان "مُهذباً" وملائماً.
كانت البيتلز نقطة فارقة في تاريخ الروك آند رول والموسيقى الشعبية وفي تاريخ العالم أيضاً. أتوا في وقتٍ كان العالم في حاجة ماسةٍ لهم. وما أضفى قوة إلى أعمالهم، هو شموليتهم، فلم يكونوا مُجرّد مغنين، وإنما كانوا مثقفين وعارفين بالفن والأدب والثقافة والثقافة المضادة، وهو ما جعل أعمالهم ذات طابعٍ طلائعي أدبي تعود أصوله إلى المأساة الفردية والمأساة الجماعية. أعطوا لأغانيهم بعداً واقعيّاً، وكانت ألبوماتهم عميقة وتغوص في معاني الحياة والهدف من الوجود. استخدام هذه العناصر وتوقهم للسلام والثورة على القديم والحرب والخروج عن المألوف، جعل من أعمالهم أغاني خالدة في ذاكرة الأجيال حتى بعد مرور خمسة عقود على تفكك الفرقة.