البوركيني المحتال

31 اغسطس 2016
+ الخط -
أثارت قضية السيدة الفرنسية التي أجبرها رجال الشرطة على خلع زي البحر (البوركيني) على أحد شواطىء نيس الفرنسية انتقادات كثيرة، سواء على خلفية دينية أو علمانية، حيث أيّد علمانيون الخطوة، ودافع عن حق فرنسا بحظر الممارسات التي من شأنها أن تخدش القيم العلمانية في ظل تنامي الخطر الأصولي، والردة الدينية كما يعتبرها بعضهم، ويظن أنّها ساهمت بإنشاء كانتونات خاصة داخل المجتمع، مهدّدة بذلك وحدة المجتمع القيمية المبنية على أساسات علمانية.
ومنهم من ذهب به التشبيه على شاكلة الكاريكاتور الذي انتشر على صفحات التواصل الاجتماعي بين تصرّف رجال الشرطة بفرض خلع البوركيني على السيدة في فرنسا، كما فرض الحجاب على السيّدات في المجتمعات الدينية المغلقة، حيث تغيب حرية المرأة في الدستور والقيم والممارسة على حد سواء، متناسياً بذلك أنّ الحرية في موضوع الحجاب وملحقاته من بوركيني، وغيره من الأزياء "المحتشمة"، تسبق بخطوة فعل ارتداء النساء لها.
الحقيقة أنّه ليس هناك من امرأة ترتدي الحجاب أو تقتنع بضرورة ستر "عورتها" بالقماش من نفسها. فهذا السلوك إذا بحثنا عميقاً نجد أنّه نتيجة لقمع ذكوري سلطوي يمارس على النساء بغطاء ديني اجتماعي، وعليه، فإنّ المرأة التي تلبس البوركيني أو الحجاب أو النقاب مسلوبة حريتها، ومصادرة مسبقاً من رجل ما على هيئة زوج، أو أب أو مجتمع كامل يدير قيمه رجل ملتحي على رأسه ريشة.
في المقلب الآخر، كان هناك من يدافع عن البوركيني من منطلق ديني، باعتباره جزءاً من هويةٍ دينيةٍ، تعكس قيماً وتعاليم مقدسة. فإن سلّمنا جدلاً مع هؤلاء، نجد أنّ الدين نفسه يمنع وجود المسلم في أماكن يمارس فيها "الرذيلة والفسق والفجور"، فكيف بمسلمة موجودة على شاطىء كل رواده من رجال ونساء بالمايوه، يسبحون ويتسامرون.
والطريف أن نسأل: ما موقف رجال الدين أيضا بالبوركيني على جسد إمرأة محجبة وهو ملتصق بجسدها، بعد الغطس بالماء، مظهراً مفاتنها أمام جمهور واسع، وقد يحدث طبعاً أن تستثيرهم وتدفع بأحدهم أن يتربّص بها فتقع بالحرام والعياذ بالله! أو ليس الخوف من هذا هو الدافع الحقيقي لفرض الحجاب و"الحشمة" على النساء كما تروّجون؟
والمستهجن أنّ السيدة فضلت خلع البوركيني على أن تغادر البحر، في حين أنّ دينها الحنيف يقضي بغير ذلك، حفاظاً على تعاليمه ولباسه الشرعي كما هو معلوم.
ولكن، يبقى الأكثر استهجانا من هؤلاء، من يفرضون على المرأة غير المحجبة لبس الحجاب في دولهم ومؤسساتهم ومراكزهم التعليمية أو الصحية، عدا عن الممارسات المحقّرة للمرأة في شتى الصعد، وبكل وقاحة، نراهم هنا يتناطحون لمطالبة فرنسا باحترام حرية خيار المرأة على أراضيها في مشهد كاريكاتوري بامتياز، يدعو إلى السخرية حقاً.
أوّجه سؤالي للعلمانيين المعترضين على تصرّف الشرطة العلمانية الفرنسية في هذه القضية، وغيرها من القضايا المشابهة، خصوصاً بعد إعلان المحكمة العليا الفرنسية المصادقة على رفع حظر ارتداء البوركيني في فرنسا: أو ليس من الأجدر بكم أن تدافعوا عن حرية المرأة في رفض إسقاط المفاهيم الدينية عليها، وإلصاقها بتهم العورة والنجاسة والنقصان، وحبسها في سجن الحجاب والحشمة على أن يصبح البوركيني مدعاة لكم للدفاع عن حريتها؟
أليس من مسؤوليتكم تحدّي هذا المشروع الديني الذي لا يوفر أي جزئية كانت في السياسة أم الإقتصاد والتعليم والرياضة وكل مفاصل الحياة كالزي واللباس.. موضوعنا هنا ليكون هوية خاصة تبشيرية على حساب النساء؟
أفاتكم حقيقة أنّ بعض المذاهب تعتمد، بشكل خاص، للحجاب لتمييز نفسها عن بقية المذاهب، في إشارة صريحة وواضحة على دور الحجاب السياسي، ناهيك عن الدور التعبوي والتبشيري، بعيداً عن طرطقة بعضهم ممن يرتديه على أنه حرية دينية خاصة وشخصية؟
قائمة التساؤلات تطول، ولكن المعلوم جيداً، ولا يجب أن نتناساه جميعاً، أنّ شبح الأصولية الدينية والإرهاب الفكري الديني، أصبح واقعاً نعيشه في الشرق كما في الغرب، وكل فرد منا هو احتمال ضحية متنقلة على الطريق بحافلة أو سيراً على الأقدام أو جالساً في مطعم أو في مركز تسوق، لا فرق، فلا مكان آمن في هذا العالم اليوم.
والخطر إن دققّنا جيداً، لم يكن يوما في السكين أو القنبلة أو الحزام الناسف. الخطر يكمن فعلياً في الأفكار والمعتقدات التي تروّج منذ آلاف السنين، وتستبيح كل مقدرات التكنولوجيا والتطوّر الحضري لإحياء نفسها، بالصريح والعلن تارة، وبالمواربة والخفاء تارة أخرى، مدعومة بجهود تتخطى حدود الأوطان، لتتكيّف احتيالاً كثعلب يتهيّأ الفرصة بعد طول ركود، ورصد لإنتهاز اللحظة الملائمة بالانقضاض على فريسته، وحين حدوث ذلك، لن ينفع أحد ما في هذا العالم حسن نية النعاجة العلمانية ولا براءتها.
1056B45E-2E54-4E8E-822E-F9AA2DE3D12A
1056B45E-2E54-4E8E-822E-F9AA2DE3D12A
علي جعفر (لبنان)
علي جعفر (لبنان)