إلا أن الأزمة الرئيسة التي تقف عائقاً أمام هذه الخطة تتمثل في أنها بُنيت على مؤسسات مهترئة وغير منتجة اقتصادياً، فالتحول الرقمي يشترط بشكل رئيس أن يرتكز على مؤسسات فاعلة وقادرة على القيام بدورها بشكل تام، ليتم بعدها نقل خدمات هذه المؤسسات إلى الشبكة العنكبوتية بهدف إفادة أكبر عدد ممكن من المستخدمين والمستثمرين.
وتشير التجارب التي تمت في مجال التحول الحكومي الإلكتروني في العالم، إلى أن هذا التحول لا يُمكن أن يتم من دون إتمام كافة المتطلبات اللازمة لهذا التحول، ومن أبرزها مأسسة هذا التحول.
والحق يقال، إن الخطة الموضوعة والتي كشف عنها النقاب اليوم في مؤتمر التحول الرقمي الذي عُقد في فندق "فينيسيا" في بيروت، من الخطط الطموحة التي تؤشر إلى محاولات جدية قابلة للتحقق، وتشير أيضاً إلى أن الثورة الرقمية وثروة المعلومات أصبحت قاب قوسين أو أدنى من التحقق في لبنان.
ولكن على الجانب الآخر، فإن الثورة الرقمية المطلوب تحقيقها، لا تكتمل من دون قوانين فعلية وجدية تُلزم السلطات الرقابية وتنظم عملها بشكل رئيس، خصوصاً أن الأمثلة التي حصلت في الفترة الأخيرة لا تُبشر بخير أبداً، وتؤكد أن البنية التشريعية في لبنان لا تزال بعيدة كل البعد عن هذا التحول، لا بل إن ممارساتها تُبعد لبنان أكثر وأكثر عن التحول الرقمي وثروة المعلومات.
وفي هذا السياق، أشارت وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية عناية عز الدين إلى أهمية المعلومات في العصر الحديث، بوصفها "أكبر ثروات الحكومة والمادة الأولية للمعلومات الرقمية"، وأن استغلال هذه المعلومات سيؤدي إلى تحقيق لبنان نقلة اقتصادية غير مسبوقة تُعيد ثقة المستثمرين في الاقتصاد اللبناني المتأزم.
وواقع الحال يشير إلى أن لبنان منتبه منذ فترة طويلة لأهمية المعلومات الرقمية، وحريص على استغلالها، إلا أن هذا الاستغلال، جاء بشكل معاكس تماماً لما هو منشود له. ولعل فضيحة شبكة التجسس اللبنانية التي كُشفت في الآونة الأخيرة باسم "السنور الأسود"، مثال حي على المشكلة اللبنانية في التعامل مع المعلومات، خصوصاً أن المؤسسات التي أعدت التقرير (لوك آوت المتخصصة بأمن الهواتف المحمولة، والكترونيك فرونتير المعنية بالحقوق الرقمية)، أشارت إلى عمل هذه الشركة بالتنسيق المباشر أو بمساعدة المديرية العامة للأمن العام في بيروت.
وحتى اليوم، لم يتم فتح تحقيق جدي أو فعال في ممارسات هذه الشبكة وفي علاقة شبكة أمنية لبنانية سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة بقرصنة مئات آلاف الهواتف المحمولة في أكثر من 21 دولة حول العالم.
والحال، أن المثل السابق، والكثير من الأمثلة التي يُمكن ذكرها في هذا المجال، تؤكد ضرورة وجود قانون فاعل وواضح المعالم يثبت الحقوق والواجبات الرقمية للمستخدم أولاً، ولمؤسسات الدولة بشكل رئيس، خصوصاً أن الانتقال إلى التحول الرقمي في مؤسسات الدولة يشترط وضوحاً في الرؤية، ومعرفة في هذه الحقوق والواجبات المترتبة على المواطن.
وفي السياق، لا يُمكن تعزيز الثقة بمؤسسات الدولة وهو الشرط الأساس لزيادة الاستثمارات وسهولة ممارسة الأعمال، من دون حل أزمة المعلومات الإلكترونية والجهات التي تتحكم بها، إضافة إلى ضمان عدم استخدامها لأهداف أخرى تخدم مصالح شخصية أو رسمية.
انطلاقاً من هنا، تدخل مؤسسات الدولة الواقعية لتضيف اعباءً على التحول الرقمي، فهناك آلاف من الأسئلة التي قد تُطرح في مجال التحول الرقمي وعلاقته بالمؤسسات الرسمية.
فبطبيعة الحال، تعج المؤسسات الواقعية بالتوظيف الخدماتي والانتخابي ما يُهلك كاهل الدولة وموازنتها، ويزيد من الأعباء المترتبة عليها، بالإضافة إلى إهلاك المؤسسات العامة بموظفين لا قيمة مضافة لهم. فكيف تخطط الدولة مثلاً للوصول إلى التحول الرقمي، الذي يعني بطبيعة الحال الاستغناء عن عدد كبير من الموظفين الفاعلين أصلاً، واستبدالهم بالتكنولوجيا والخدمات الإلكترونية، وفي الوقت ذاته، المحافظة على التوظيف الانتخابي الذي يضمن "زعامة" الكثير من الأفرقاء السياسيين؟
لعل الأمثل في سبيل الوصول إلى التحول الرقمي، الوصول أولاً إلى "ثورة" في المؤسسات العامة و"تنظيفها" من الشوائب التي تعيق عملها، قبل الوصول إلى التحول الرقمي.
إضافة لكل ما سبق، لا تزال البنية التحتية في لبنان متأخرة جداً عن اللحاق في ركب الثورة الرقمية، فلبنان حتى الساعة لم يعالج أزمة الكهرباء التي تنقطع في بعض مناطقه أكثر من 18 ساعة يومياً، كما لم يصل إلى سرعة الإنترنت المطلوبة لتحقيق الثورة الرقمية، والأهم مما سبق، فإن لبنان لم يصل حتى اليوم إلى ثقافة واعية وواضحة لثورة المعلومات والتكنولوجيا يمكنها أن تساعد في التأسيس نحو التحول الرقمي.
في المحصلة، لا بد قبل البدء عن حديث في التحول الرقمي، من فتح باب النقاش الفعال في خارطة الطريق التي تؤدي إلى إصلاح المؤسسات الواقعية، إذ لا يُمكن بناء تحول رقمي على مؤسسات مترهلة وغير صالحة للعمل، خصوصاً مع البنية التحتية المتأخرة التي لدينا.