البعثيون على طريق استعادة الحلم

17 ابريل 2019
+ الخط -
ظهر الأمين العام لحزب البعث، عزّت الدوري، في ذكرى مولد الحزب، بالعقال والعباءة للمرة الأولى منذ الاحتلال الأميركي للعراق، بعدما اعتاد الظهور بالبزة العسكرية ورتبة "المهيب". وحسب بعضهم، إطلالته باللباس العربي عودة مستجدة إلى أصول المشروع القومي الذي بشرت به شلة مثقفين وجامعيين، جمعهم مقهى الرشيد الصيفي في دمشق قبل أكثر من سبعة عقود، في مسعىً إلى تجسيد حلم وحدة الأمة وحرية مواطنيها، فيما عدّ آخرون إطلالة الدوري العربية محاولةً للقطع مع مرحلة سابقة، وانعكاسا لمراجعةٍ مطلوبةٍ في الخطاب البعثي، وخصوصا في مواجهة قضايا راهنة لم تعد تحتمل التجاهل، وقد لا تحلّ بالتعامل معها بعقلية السلطة البائدة. وإذا كانت هذه المراجعة قد تأخرت ستة عشر عاما، فإن إطلاقها اليوم، وتشخيص الأخطاء والخطايا التي ارتكبت في الماضي، خير من الصمت حولها إلى الأبد.
وثمّة من يقول إن مفاجأة ما سوف تتبع هذا الظهور "العربي" للدوري، وإن قوى عربية ودولية بدأت تدرك خطأها في محاربة "البعث" والسعي إلى اجتثاثه، وإن ديناميكية الأزمات في المنطقة تفرض على هذه القوى إعادة النظر في قناعاتها، والعمل على "تسويق" الحزب مجدّدا!
ليست هذه السطور لمناقشة هذا الطرف أو ذاك، ولكن ما يبدو، وللوهلة الأولى، أن غرض الخطاب، وبغض النظر عن مناسبته، كان تبرئة الحزب من خطيئة احتلال الكويت، وتحميل صدام حسين وحده مسؤولية تلك الخطيئة، وهو أمرٌ لا يستقيم مع واقع الحال، إذ إن الدوري كان الرجل الثاني في قيادة النظام، وقد ساهم بدور رئيسي في تبرير الغزو، وهو الذي اشتبك مع أمير الكويت الراحل في مشادّة لا يزال ذكرها طريا في الأذهان. وعلى أية حال، وصف عزت الدوري، في خطابه، الحدث بأنه كان "خطأ مبدئيا واستراتيجيا وأخلاقيا (...) وهو الصفحة الأهم من صفحات المؤامرة الكبرى على الأمة العربية". وبديهي أن توصيفا كهذا يمثل انعطافة كبيرة، ليس في موقف الدوري وحده فحسب، وإنما في موقف الحزب بشكل عام، ويسقط كل التبريرات التي سيقت لتبرير الغزو في حينه.
وإذا كان الاعتراف بخطيئة غزو الكويت أمرا محمودا ومطلوبا في آن، فإنه لا يكفي وحده 
للقطع مع المرحلة السابقة، إذ ثمة ارتكابات وخطايا أخرى لا تقل خطورة وتأثيرا عن خطيئة الغزو، توجب الاعتراف بها، والاعتذار عنها للشعب العراقي قبل غيره، إذا كان البعثيون يريدون فعلا تأهيل حزبهم للدخول في حلبة الصراع السياسي من جديد، لمواجهة استحقاقات المرحلة الصعبة التي يمر بها العراق اليوم، وبعض تلك الأخطاء والخطايا هي التي وفرت الفرصة للأميركيين، كي ينفذوا مخططاتهم في غزو العراق واحتلاله، وما أعقب ذلك من تفكيك المنطقة إثنيا وطائفيا.
وعندما تفتح كل الملفات، ولكي تكتسب المراجعة الشاملة فاعليتها، ينبغي أن تستكمل بإعلان أفراد "الحرس القديم" الذين ما زالوا مهيمنين على قيادة الحزب تخليهم عن مواقعهم، كي ينهض بالحزب جيلٌ جديدٌ لم يتلوث بالأخطاء والانحرافات التي شابت المسيرة السابقة، وخصوصا أن ثمّة دعوات كانت أطلقتها بعد الاحتلال قياداتٌ بعثية معروفة، اضمحلت أصداؤها بمرور الزمن، بعد تجاهل القيادة الحالية لها، ووصم دُعاتها بشتى النعوت، يمكن أن تُذكر هنا وصية القيادي الراحل سعدون حمادي للبعثيين "أن يلملموا صفوفهم ويناقشوا مرحلتنا بكل إيجابياتها وسلبياتها، ويتم انتخاب قيادة جديدة، ليس فيها من كان ضمن قيادتنا في أثناء الفترة التي أدت إلى الاحتلال، والاعتذار للشعب عن أي تصرف خاطئ".
بقي أن نقول إننا لا نتمنى لأصدقائنا البعثيين أن يتعاملوا مع الحلم الذي سعت إلى تحقيقه شلة مقهى الرشيد في دمشق كما تعامل الشيوعيون الفرنسيون مع ثورة أكتوبر الاشتراكية، ذلك التعامل الذي تحدث عنه أندريه مالرو، في حواره مع صديقه الجنرال ديغول، عندما قال إن ثورة أكتوبر كانت حلما، لكن الشيوعيين الفرنسيين جعلوها، بممارساتهم القاصرة، تبتعد عنهم، بعدما ابتعدوا هم عنها، لذلك باتوا بعيدين عن الحلم، ولا فائدة من محاولة سطوهم على الحلم، لأنه غدا من دون أثر، ما دام قد انفصل عمن ولد منه!
هكذا يبدو لنا الحلم الذي اجتمع من أجله شباب شلة مقهى الرشيد في دمشق، قد انفصل عمن ولد على يديه وبات من دون أثر، ولم يعد يعكس تلك الهالة من الوهج المضيء. لقد بات الحلم البعثي بعيدا... بعيدا جدا، والطريق طويل أمام البعثيين إذا ما صمموا على استعادته.
دلالات
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"