ثمّة نمط من التفكير الاجتماعي السائد، غير الواعي بذاته ربّما، يربط على الدوام ما بين البداية والنهاية، كما لو أنهما أمرٌ لا مفر منه، أحدهما ينجب الآخر. يظهر هذا النمط علاقات البشر في ما بينهم كما لو أنها جزءٌ عادي وبديهي من الطبيعة المألوفة، نازعة عنها تشابكها وتعقيداتها النفسية والمادية على السواء. في الظاهر يبدو هذا النمط من التفكير منطقياً، وربما ينطوي على حكمة مضمرة، غير أن به نوعاً من الحياد اللامبالي إزاء الوقائع التي تفضي من "البداية" إلى "النهاية"، وتكاد لا تكون محل اعتبار.
دواعي هذا التفكير ربما تكمن في نوع من إيجاز الحياة وتلخيصها، من خلال الإمساك بجوهرها الدعيّ، ورغبة في التخلص من عبئها وثقلها، أي جعل التفكير النظري بها متماسكاً وخفيفاً وبسيطاً في آن واحد، فيما هي على الأرجح تفتقر إلى التماسك والبساطة السهلة ذات النسق الخطي الواحد؛ ذلك أنّ المرور من أي بداية إلى نهايتها يشمل الصدف والطوارئ وما لا يمكن توقعه، الأمل والخيبة والتحدي، الإحباط والجرأة، وما يستحيل الوقوف في وجهه. وكل هذا الأخير يشكل وسط الأشياء والحوادث التي تجمعها عبارتا البداية والنهاية.
إن توسيط الأشياء والأحداث ربما يجعلنا ننفذ إلى لبّها، والنظر إليها بعين نافذة ورؤية عميقة. فنحن على الدوام في قلب الزمن الذي يجمع الماضي والمستقبل في آن، أي أن الزمن الحاضر السائل، هذا اليومي الدائم، هو محل تفكير ولو غير مباشر بالبداية والنهاية.
ولعل السبب في التبسيط البدائي وجعله خواتم الأمور رهنَ بداياتها، يعود إلى نمط وعي سطحي، يعود إلى الماضي دوماً كي يفسر الحاضر ويبرر رسوخه على شكل ما من التعامل والتفكير. كما أن النظرة الرومانسية، التي تنطوي على نوع مزدوج من العجز وعدم المجابهة المباشرة، تفضل تأجيل الحاضر دوماً، وتسويفه إلى مستقبل تختزله عبارة "النهاية".
هكذا تعمل ذاكرتنا، التي هي محل انتباهنا وتفاعلنا، بين زمنين غائبين، نسمّي أحداث أحدهما بـ "البداية" والثاني بـ"النهاية". ذلك أن السهولة مغرية، والكسل يبحث عن حجة ليدافع عن حكمة مدعاة. ثم من يدري لعل البداية قناع كثيف وناءٍ من الصعب الكشف عن وجهه الحقيقي، ولعل النهاية هي الرجاء الخائب، أو هي التي يبقى علينا تقريبها من الأفهام من خلال تحويلها إلى حكمة تترفع وتتعالى عن جسد الحاضر الفعلي والماثل أمام عيوننا.
يبدو ما هو أصعب من "البداية" و"النهاية" معاً في ما يترصدنا ويحيرنا ويغرينا ويخيبنا، وحينها لا مفر لنا من الغرق فيه، والامتزاج به، حتى لو كان في الغرق مخاطرة، وفي الامتزاج تلوث.