البحر الأبيض المتوسط... والسعي لإيجاد بديل

13 مارس 2016
(قوانغشي: دار النشر لجامعة المعلّمين، 2015)
+ الخط -
تزامن الربيع العربي وما تبعه من الاضطرابات في بعض الدول العربية مع تدهور أزمة الديون في منطقة اليورو، الأمر الذي أثار تساؤلات لدى بعص المحللين من أمثال جانغ تسويرونغ، وهي مراسلة صحافية مستقلة من هونغ كونغ، تمحورت معظمها حول التشابه في أسباب نشوء هذه الأحداث التي وقعت على طول ساحل البحر المتوسط. زارت تسويرونغ كلا من اليونان وإسبانيا ومصر وتونس وتجولت في مدنها وأريافها وقابلت روّادها وأعلامها، باحثة عن القوة الخفيّة التي ورّطت هذه الدول في الأزمات المزمنة سياسياً واقتصادياً. وعلى هذا، سّجلت اكتشافها في كتاب "البحر الآخر: الربيع العربي وعاصفة أزمة الديون الأوروبية وفخّ النيوليبرالية"، وفيه تشير الكاتبة إلى أنّ هذه القوة الخفية وتقصد "النزعة النيوليبرالية" التي تنتشر الآن في أرجاء العالم وتسيطر عليه باسم الحرية والديمقراطية هي في الحقيقة تمثل الاستغلال الرأسمالي لثروات العامة لخدمة الأثرياء. ولهذا شبّهت جانغ هذا الانتشار بالطاعون الأيديولوجي الذي يخيم على قلوب الناس بنفس الصورة التي وصفها ألبير كامو في رواية "الطاعون" المشهورة.

إذن ما هي النزعة النيوليبرالية؟ وما لها وللطاعون الجارف المخيف؟

بحسب تسويرونغ، نشأت هذه النزعة في ثمانينيات القرن الماضي متمثلة فيما نفّذته مارغريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في أميركا من سياسات دعم سيادة السوق الحرة، وكسر أي حاجز حال دون سريان رؤوس الأموال بين كيانات اقتصادية. عزت الكاتبة أصل هذه السياسات نظرياً إلى كتاب "الطريق إلى العبودية" لفريدريش فون هايك الذي ادعى فيه أنّ تدخل الحكومة في المعاملات السوقية مثل تخطيط وتوزيع الموارد وترشيد الاستثمار والإنتاج، سيؤدي نهائيا إلى فقدان الأفراد سيادتهم على أنفسهم حتى يدعموا تركيز السلطة السياسية ويصبحوا عبيد الديكتاتورية. وأكّد أنّ السوق الحرة هي الضمان الوحيد للحرية الحقيقية التي يتوق إليها كل فرد ومجتمع. وبعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي، حظيت النزعة النيوليبرالية بزخم جديد فسادت تدريجيا كثيراً في دول العالم، وبدا كأنها خيار البشرية الأخير والأصحّ لتحقيق الأمن والرخاء والحرية والكرامة، وهي المثل العليا التي ظلت البشرية جمعاء تتوق وتسعى إليها.

وتبعا لملاحظات الكاتبة في زيارتها لدول البحرالمتوسط، فقد فشلت السياسات النيوليبرالية فشلا ذريعا، إذ إنها لم تؤد إلا إلى الفساد الشائع واحتكار الأثرياء والأسر الحاكمة ثرواتٍ ضخمة، وتدهور في مستوى معيشة العامة، وتوسع الفجوة بين طبقات المجتمع، بخاصةً بين الفقراء والأثرياء. ذلك لأن النيوليبرالية، بدلا من أن توصل الناس إلى التحرر من القهر والاستغلال، شجّعت على سريان الرأسمال وتحكمه في كل ناحية من الحياة الاجتماعية، فأفسحت لذوي الثروة والنفوذ مجالاً أوسع لاحتكار المجتمع، من خلال احتكار وسائل الحصول على الرأسمال. الأمر الذي ولد تلاحم السلطة والرأسمال على حساب المصالح العامة.

يتجلى منطق تسويرونغ في وصفها النيوليبرالية في خلق نوعين متشابكين من الهيمنة. أولهما، الهيمنة الداخلية أي هيمنة الحكام والأثرياء على المواطنين العاديين في دولة ما. وثانيهما، الهيمنة الخارجية أي هيمنة الدول الأكثر قوة على غيرها من دول العالم من خلال التواطؤ بشكل من الأشكال مع الحكام والأثرياء في الدول المهيمن عليها. فما أسفرت عنه الهيمنة الداخلية من الفجوة في الطبقية الاجتماعية قد ورّط اليونان وإسبانيا في الاضطرابات، ومصر وتونس في الثورات ضد الأنظمة.

يتصف هذا المنطق بعدة صفات تجعله أشبه بنظرية مؤامرة من تحليل قادر على استخراج بواطن الواقع الذي يخفى على الشهود. أولا، هو منطق بسيط التركيب وسهل الإدراك جاء دون اعتبار لتعقّد أسباب نشوء الأزمات الاجتماعية وتشتّت السياقات السياسية بين الدول المختلفة. ثانيا، هو منطق لا يُبنى على المقارنة والموازنة الدقيقتين بين الملاحظات المتأنية ووجهات النظر المختلفة، بل على سفريات باحثة واحدة ومقابلاتها مع الشخصيات المتمسكة بمواقفها ضد النزعة النيوليبرالية. ثالثا والأهمّ، حسب ما قرأت في هذا الكتاب، لا تشبه النزعة النيوليبرالية الطاعون الأيديولوجي الذي ابتلع تدريجيا معظم مجتمعات ودول العالم كما حاولت الكاتبة أن تظهره وتبرهن عليه، إذ إن الطاعون ينتشر عبر طرق الاتصال المتعددة بشكل مباشر وغير مباشر، وبشكل طبيعي دون الحاجة إلى وجود وكالة أو واسطة تنشره قهراً وعمداً، ولكن برأي الكاتبة فإن النزعة النيوليبرالية لم تنتشر بتلقاء نفسها بل فرضتها أميركا مع شركائها الدوليين وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي على دول أو مناطق أقلّ قوة، بخاصةٍ الدول النامية. في هذا الباب مثلا، ادّعت تسويرونغ أن مؤسسة غولدمان ساكس الأميركية المتعددة الجنسية هي المسؤولة الرئيسية، إذا لم تكن الوحيدة، عن أزمة الديون في اليونان.

يهدف الكتاب إلى إيجاد "البحر الآخر" كبديل "للبحر الحالي" المضطرب، إلا أنه لم يزوّد العالم بأيّ نقد مستقل أو حلّ إبداعي بل اشترك ضمن نفس سياق الخطيئة الأصلية للنيوليبرالية، وهو سياق ليس أقلّ خطراً من النيوليبرالية، هذا على اعتبار أن الأخيرة هي القوة الموحّدة التي تطمع بالعالم أجمعه.

(أستاذ مساعد في الدراسات العربية بجامعة بكين)
المساهمون