البحث عن منطق الدولة

26 ابريل 2015

مواطن عراقي يبتاع صحفا في بغداد (9 إبريل/2004/Getty)

+ الخط -

يبدو اليوم من غير المفهوم هذا الإصرار المستمر على مواكبة أي موقف سياسي، أو تحرك عسكري، بخطابات مؤدلجة، تنتشر في الفضاء الوطني والإقليمي عربيا. يبدو من غير المفهوم هذا الإصرار على أدلجة كل سلوك وتحرك وتحالف، على اعتبار أن الدواعي والمحركات الأيديولوجية والفكرية والعقائدية، هي الدافع الرئيس والناظم الوحيد ومصدر كل التبريرات، للقيام بتحركات في المجال السياسي، أو التحرك عسكرياً، لرعاية رؤية سياسية أو حمايتها، في حين انكشف للجميع، وبوضوح، أن الدوافع والمحركات بعيدة عن هذا كله. بل بات الناس العاديون مسلمين ومستسلمين للغة المصالح السياسية، ويتقنون استخدامها في حواراتهم البسيطة ونقاشاتهم.

في ظل حالة التسييس المفرطة، في هذه المرحلة عربياً، يغيب منطق الدولة وسلوكها عن تحركات الدول، وتغلب خطابات الجماعة والأيديولوجيا عبر أدوات وأساليب تبدو قادمة من زمن مضى، فالتجييش الدعائي والبروباغاندا المنتجة برعاية النظم ودعمها، بدءا من الأغاني المصورة، وصولاً إلى اللجان الإلكترونية والبرامج التلفزيونية، تتركز كموكب وحيد وتبرير أوحد تقدمه النظم لمواطنيها، عند كل محك، أو قرار أو سياسة جديدة. وهذا لا يبدو متناسباً مع المبلغ الذي بلغه سفور الواقع، ووضوح الدوافع الحقيقية في هذه المرحلة المكثفة عربيا.

حين تتوسل الدول خطابات الجماعات ومبرراتها، فهذا يمنح منطق الجماعات مبررا وشرعية، ويكشف إلى أي حد لا تفلح الدول نفسها في رؤية نفسها دولاً، وفي وضع استراتيجياتها دولاً ذات أمن ومصالح قومية. ويدفع تحويل هذه الآليات إلى سياسات ثابتة إلى إضعاف منطق الدولة نفسه، بما يهدد وجودها ومصالحها أصلا. أما حين تتحرك الجماعات والحركات بمنطق الدول، فهذا نزوع مفهوم وكاشف لحقيقة رؤيتها المصلحية للسياسة، خصوصاً حين يتعارض سلوكها السياسي مع خطابها الأيديولوجي. ويكشف الواقع اليوم، إلى أي حد تتقن بعض الجماعات والحركات اختراع خطاب دولاتي، في مرحلة تعجز دول عن المحافظة عليه وتأكيده.

ثم أليس من الغريب اليوم أن تجهد دول وكيانات لا تعبأ برأي مواطنيها، ولا تشركهم في حكم، ولا قرار حرب وسلم، في ضخ خطابات في العموم ذات حمولة أيديولوجية، وتتوسل مفردات عقائدية، لتبرير أو تغليف تحركها السياسي أو العسكري! يبدو هذا السلوك غريباً وغير مفهوم مع دول تخلّصت من عبء مواقف مواطنيها، ولا تشكل مواقفهم محدداً في خياراتها، فلا تقلق من انتخابات قادمة، ولا مزاج شعبي قد يتطور إلى تظاهرات وعصيان. أما افتراض أنها، بهذه الخطابات، تقطع الطريق على استخدام غيرها لها، فهو وارد جدا ومعقول، لكنه، في حقيقته، يكشف طريقة إدراك النظم الحاكمة والنخب السياسية حقيقة موقعهم، لا كدول بل كجماعات، فالدول العربية، كما يبدو اليوم، ما زالت لا تدرك نفسها دولاً ذات مصالح وخطاب دولاني وأمن قومي.

يتشابه شعار "الموت لأمريكا والموت لإسرائيل"، حين يطبع على قذائف تقصف بها بيوت اليمنيين، مع شعارات "حماية الإسلام السني من خطر شيعي"، حين يستخدم لتبرير حرب أو تحالف سياسي، في حين يوفر منطق الدولة ومصالحها وحماية أمنها القومي، إجابات وافية لتبرير المواقف السياسية والعسكرية. ومن المفارقة أن هذا الخطاب يلاقي القبول الأكبر في العالم، ويمكن فهمه في السياقات الدولية، والدفاع عنه، أكثر من منطق الطائفة والجماعة، والتحرك الروسي ضد أوكرانيا أخيراً يكشف، بوضوح، كيف تتحدث الدول عن نفسها باعتبارها دولاً، ويبدو هذا كافيا حتى تُفهم دوليا، حتى حين تجتاح دولاً أخرى!

إن التنازل المستمر عن منطق الدولة وسلوكها، يشي برغبة في عدم تكريسه في نفوس مواطني تلك الدول أنفسهم، ويشي، أيضاً، بعدم تسليم النظم الحاكمة بمنطق الدولة، بدل منطق الطائفة والأيديولوجيا والعقيدة.

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين