تبدو زيارة البابا فرنسيس الى العاصمة التركية أنقرة في 28 الحالي ولمدة يومين، غريبة في توقيتها، وخصوصاً أن البابا لم يتوجه بعد لمعظم دول العالم التي يشكّل الكاثوليك أكثرية عظمى من سكانها، وبالتالي لن تعدو زيارة أنقرة أكثر من مجاملة للبلد الذي يضم بطريركية القسطنطينية للروم الأرثوذكس والتي تُعتبر الوجهة الحقيقية للزيارة.
وبطبيعة الحال ليس هناك الكثير مما يمكن التباحث به بين أنقرة والفاتيكان، سوى الضغط الذي قد تمارسه الحكومة التركية على الفاتيكان للامتناع عن عقد أي لقاءات يحضرها الداعية الإسلامي فتح الله غولان، والذي كان أحد أقطاب مؤتمرات حوار الأديان والتقى بعدد من باباوات الفاتيكان.
حتى أن البابا السابق بنديكتوس السادس عشر، وعند حديثه عن زيارته إلى أنقرة، لم تحتلّ الشؤون التركية موضع الصدارة في ذهنه، بل فضّل الحديث عن بطريركية القسطنطينية الأرثوذكسية المسكونية، و"القسطنطينية" بدلاً من الحديث عن العلاقات مع تركيا.
يُذكر أن زيارة البابا فرنسيس ستستمر لمدة يومين، يزور خلالها تبعاً للتقاليد الرئاسية في تركيا، ضريح أتاتورك في أنقرة في اليوم الأول، ومن ثم القصر الرئاسي الجديد "أك ساراي"، على أن يعقد بعدها لقاء مع رئيس إدارة الشؤون الدينية في تركيا محمد كورماز، ليتوجّه بعدها إلى مدينة إسطنبول حيث سيقوم بزيارة إلى كل من "آية صوفية" وجامع السلطان أحمد وكاتدرائية الروح المقدسة حيث يترأس قداساً، ومن ثم سيلتقي بطريرك القسطنطينية للروم الأرثوذكس بارثولومايوس الأول في إسطنبول ليقيما معاً قداساً مشتركاً.
وكانت البطريركية المسكونية في إسطنبول مصدر خلاف كبير وعلى مدى سنوات بين تركيا والغرب، ففي الوقت الذي لا يرى معظم الأتراك مقر البطريركية على ساحل الخليج (القرن الذهبي) في إسطنبول أكثر من أسقفية محلية لمجموعة ممن تبقى من اليونانيين في المدينة، تتخذ هذه الكنيسة أهمية بالغة لأكثر من 300 مليون أرثوذكسي حول العالم، إضافة إلى أهميتها المتزايدة على مدى السنوات الخمسين الماضية، فقد سعى البطاركة والباباوات المتعاقبون منذ عام 1964 إلى لمّ شمل الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية اللتين افترقتا قبل أكثر من ألف عام، وقد تكثّفت هذه الجهود أخيراً تحت رعاية البطريرك الحالي بارثولومايوس ونظرائه في الفاتيكان يوحنا بولس الثاني، بنديكتوس السادس عشر، والآن فرنسيس.
بطبيعة الحال فإن محاولات التوحيد هذه تبدو صعبة للغاية، ليس فقط من الجانب اللاهوتي لكن أيضاً من الناحية التقنية، ففي الوقت الذي تتمتع فيه الكنيسة الكاثوليكية ببنية واضحة هرمية قادرة على اتخاذ قرارات تبعاً لتقاليد صارمة، لا زالت الكنيسة الأرثوذكسية مبعثرة ومقسّمة على أكثر من 11 بطريركية مستقلة، مما دفع البطريرك بارثولومايوس الأول بعد عدة محاولات، وفي سبيل إيجاد أرضية مشتركة بين البطريركيات، للدعوة إلى مؤتمر لعموم الأرثوذكس في العالم عام 2016 في كنيسة حاجية إرينا (Hagia Irene) في إسطنبول، لتكون الخطوة التالية عقد مجمع مسكوني عالمي يضم كنائس الأرثوذكس في الشرق والغرب عام 2025 في منطقة نيكية أو إزميك (التسمية التركية) على بحر مرمرة حيث عُقد المجمع المسكوني الأول عام 325 ميلادي.
يذكر أن البطريركية المسكونية تقلّصت بعد دخول العثمانيين إلى القسطنطينية، وتتبع لها اليوم كنائس تركيا وبعض جزر بحر إيجة، والأبرشيات اليونانية في المهجر، وجبل آثوس حيث يوجد عشرون ديراً رهبانياً منها سبعة عشر ديراً يونانياً، ويبلغ عدد رعاياها الآن مجتمعين نحو ثلاثة ملايين شخص فقط.
وبعد أن أهملت تركيا رعاية الكنيسة المسكونية ولم تعمل على تعزيز دورها في العالم المسيحي لفترات طويلة، تحاول الآن إعادة إحيائها وتسليط الضوء مرة أخرى عليها، مستخدمة زيارة البابا لأنقرة كوسيلة لإظهار التراث المسيحي على الأراضي التركية، في وجه معارضي دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بحجة افتقادها للجذور المسيحية والثقافة والقيم الأوروبية كما تروج الأحزاب المسيحية الديمقراطية، لتصبح زيارة البابا فرصة لتذكير أوروبا بأن هذه الجذور في إسطنبول والأناضول هي أعمق من أي مكان آخر.
فقد عقدت كل المجامع المسكونية السبعة المعترف بها من قبل الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية على حد سواء على الأراضي التركية، في كل من القسطنطينية، إفسوس، نيقية وخلقيدونية، والتي تقع اليوم في حي كاديكوي الاسطنبولي، ووضعت هذه المجالس الأسس اللاهوتية للإيمان المسيحي وصولاً الى عقيدة نيقية التي وُلدت في ما يسمى تركيا الآن.