الانقلاب والاحتلال .. التشابه في اغتيال الإنسان

08 اغسطس 2014

أطفال مصريون يحملون شموع تضامن مع غزة (يناير/2009/أ.ف.ب)

+ الخط -
كلاهما ضد الإرادة الحرة؛ الاحتلال يغتصب الأرض ومَن عليها، والانقلاب يختطف السياسة ومَن تحتها ومَن فيها، وكلاهما يصبّ في خانة واحدة: اغتيال الإنسان وإبطال مفعول الإنسانية فيه.

احتلال الأوطان من أجنبي متسلّط، ليس مجرد احتلال للمكان، أو مزاحمة في الأرض ومضايقة لصاحبها وقاطنها، بقدر ما يكون تضييقاً للمعنى الإنساني في العيش، وعدواناً على حقوق الحياة الطبيعية، واعتداءً على الذات والهوية ومقومات الفطرة والغريزة البشرية. وهذا ماثل لكل عين في ما تفعله المنظومة الصهيونية بأهل فلسطين، ومحاولتها فرض حالة دون إنسانية على إنسان هذه الأرض، وإخراجه من معاني الوطن والإنسانية وحقوقهما، إلى حال الإذعان والإذلال والرضا بالهوان.
وبالمثل، ثمة احتلال لمساحات المجال العام والسياسي، وفرض السلطة القهرية التي لا تخدم بقدر ما تستخدم، ولا تحكم بقدر ما تتحكّم، ولا ترعى بقدر ما تسلب الحقوق، وتنهب الثروات وتقمع الحريات، وتفرض قيوداً تخرج المجتمع عن حالته الطبيعية إلى حالة سلبية، من ورائها أمراض وأزمات لا يستقيم العيش، أو التعايش معها، وذلك شأن الحكم العسكري والاستبداد كما يريد الانقلابيون أن يصنعوا بمصر
اليوم. احتلال الأوطان غصب واغتصاب لها، واغتصاب السلطة فيها، هي مقدمات لاغتصاب الأوطان والإنسان.

ما بين الاحتلال والانقلاب وجوه تشابه وتناظر كثيرة، تكاد تصل بالظاهرتين إلى وضع التماثل، أو بالأحرى تجعلهما وجهين لعملة واحدة؛ هي حصيلة تطابقهما. ولعل من أهم هذه الوجوه ما نراه من صورة كلية، لانتهاك الإنسانية وقتلها، ثم استباحة الأرواح وكل شيء، والإدارة بالذبح والمذابح، بلا معقّب ولا عقاب، ولا حساب ولا محاسبة، ثم تحويل الأرض المحتلة والمجالات المختطفة إلى سجن كبير في تفاصيل عيشها، ثم إفقاد البلاد أي نوع من الإرادة السياسية والاجتماعية وتكريس تبعيتها ونهبها سراً وعلانيةً لصالح الغير، بل لصالح العدو. وأخيراً، محاولات صناعة القبول والقابلية للاحتلال وللاستبداد، والعمل الدؤوب على قتل مناعة الشعوب ضد الظاهرتين، حتى يتم التطبيع والتطويع والإخضاع والتركيع في صورة (العبودية المختارة)، و(الاعتراف بالأمر الواقع)، والاستسلام باسم السلام، والانبطاح باسم المصالحة قبولاً بأمر واقع وسلطة انقلاب.

وفي ما بين مصر وفلسطين تتجلّى القصة وتتّسع فصولها، فأول ذلك انتهاك وقتل إنسانية الوطن والمواطن:
يجب أن يكون واضحاً ما نؤكده، ونكرره، أن احتلال الصهاينة فلسطين اغتصاب لحق الوطن والمواطَنة باسم حق التوطّن والاستيطان، وسلب الحقوق التاريخية والدينية والسياسية والطبيعية وممارسة القهر والإذلال، واستغلال الأرض ومص دماء أهلها ونهب ثرواتهم، باسم (حق التضحية بالآخر من أجل الذات المقدسة)، لم يكن يوماً مجرد احتلال أرض، بقدر ما كان، ولا يزال، حرقاً لمَن يعيش عليها، وتدميراً لمعايشه؛ وباختصار، انتهاكاً بالغاً لمقومات إنسانيته. ولهذا، مارس هذا الاحتلال البغيض، عبر عقود القتل والتقتيل، القمع والاعتقال، وحظر التجول ومنع السفر، وتحجيم الحركة، وفرض الحصار، وتضييق المعايش والعبث بالأرزاق، وتضييع التعليم والصحة. إنها عملية ممنهجة لإعدام شعب فلسطين في غزة والضفة وسائر الأرض المحتلة منذ 48، وحكم على الشعب بأن يعيش تحت أرضه، لا فوقها، لأن فوقها سيّدٌ عدوّ يطؤها بعنفه وقهره.

وكذلك يفعل الانقلاب العسكري في مصر؛ يفرض نظام حكم الأقلية العسكرية والمتعسكرة تحت تهديد السلاح وحكمه. وإذا كان الاستبداد، بعامة، يقوم على القهر، فإن استبداد العسكر إنما يقوم على القهر والقتل والاستباحة معاً: (سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم، وإنا فوقهم قاهرون). وقد رأينا ولمسنا كيف قام انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 على استباحة كل شيء، قتلاً وحرقاً وقنصاً وقمعاً، وكيف أصدر أحكام الإعدام على المئات والآلاف بكل استخفاف، وروّج ثقافة كراهيةٍ واستئصال شاملة، وكيف أطاح الشرعية والإرادة الشعبية الواضحة بجرّة مدفعه، وكيف قسم الشعب إلى شعبين (يستضعف طائفة منهم يُذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين). الانقلاب الذي يهدم الشرعية، ويدوس عليها بـ"البيادة"، يتلاعب بهوية الناس ودينهم ودنياهم، وعقولهم وضمائرهم، وقانونهم وقضائهم، وإعلامهم وتعليمهم، ودخولهم واحتياجاتهم، ويعيد تشكيل حياتهم برمّتها في إطار (لا صوت يعلو فوق صوت المنقلب).
وثانيها، استباحة كل شيء بلا معقّب ولا عقاب: يقوم منطق الاحتلال والانقلاب على أن مَن يملك القوة يصنع القانون، ويملك حق العزف عليه، أو العزوف عنه. القانون هو ما أريكم إلا ما أرى، القانون هو أنا: أصنعه اليوم، وأمدحه في الصباح، وأضيق به في المساء، فأطبقه، حيث ومتى شئت، وأطبق عليه، حيث ومتى شئت. والاحتلال الصهيوني لم يعرف، في تاريخه الأسود، غير قانون الغابة؛ يستبيح الشعب الأعزل، ويمارس معه، وعليه، كل ألوان الوحشية التلمودية. مذابحه حبات عقد دولته اليهودية الدموية، من دير ياسين إلى كفر قاسم، وصولاً إلى صبرا وشاتيلا وجنين والشجاعية وخزاعة ورفح، مروراً بعشرات المذابح التي، لكثرتها ومجاراة العالم لها، لا تكاد تحصيها. وكذا استباح سجن مئات الآلاف رجالاً ونساء، لا يعرف في الشعب صاحب الأرض مدنياً وغير مدني، ولا مقاوماً وغير مقاوم، ولا طفلاً ولا شيخاً.

يستبيح الأرض وما عليها، فيزرعها بالمغتصبات التي يسميها المستوطنات، ويجلي عن الأرض أصحابها، بكل هدوء وبرود، ويغتصب المساجد ويدنّسها بأحذية جنوده، وعلى رأسها المسجد الأقصى، ويحفر تحته ما يشاء من أنفاق، ويصادر حوائطه، ويهوّد القدس الشريف، على أعين العالم بلا أدنى تعقيبٍ أو شعور بإمكان محاسبة أو معاقبة. وما لا يستبيحه مع شعبه المغتصب، يبيحه ويشجع عليه مع هؤلاء المستضعفين من كل باب.

والانقلاب العسكري نسخة أخرى من منطق الاستحلال بالتكفير والتخوين والشيطنة، وتصوير القطاع الأكبر من الشعب، الرافض له، في صورة العملاء المعتدين، أعداء الوطن، فتستحلّ دماؤهم وأموالهم وبناتهم وأعراضهم وحرياتهم وكراماتهم. وعلى خطى الصهيونية، يقيم المذابح بدم بارد، وتتأثر مجازره بلا أدنى إحساس بالذنب، ويصادر الأموال والممتلكات والجمعيات والمدارس والمحلات والعمل الخيري، فضلاً عن العمل السياسي، باعتباره حقه وواجبه، وقياماً منه بحماية الأمن القومي. يمارس كل أشكال الإرهاب باسم الحرب على الإرهاب، ويستدعي إعلام الاستباحة، وقضاء الاستباحة، وشرطة الاستباحة، ليصنع من وراء ذلك شعباً يؤمن على الاستباحة. إن تعاطي الناس مع مذابح الانقلاب هو طمس لفطرتهم وانتكاسة في الضمير والوجدان العام. وهذا الذي يرقص في الميدان وحوله يقنص العسكر الشباب، ويرقص أمام اللجان، ويؤلف أغاني الشماتة والكراهية وتفتيت الوطن، لا يمكن إلا أن يكون قد انقلب انقلاباً إنسانياً على فطرتها، لا مجرد انقلاب عسكري.
وثالثها، تحويل البلاد إلى سجن كبير: القمع سياسة عامة مشتركة بين المحتل والمنقلب، هما فعلان بحكم التعريف ضد أي معنى للحرية. وها هي فلسطين تحولت من مهد النبوات وأرض الرسالات ومعبر التجارة والحضارة والعلوم والثقافات والأقوام والأحداث العظام، إلى معتقل ضخم يسجن فيه شعب بأكمله، ويقف على أبواب سجنه أعداءٌ لا يريدون إلا القضاء عليه والتخلّص منه.

كنا نظن أن هذه سمة خاصة بالمحتلين الأجانب، غير أن انقلاب العسكر، وما قاموا به، منذ قيام ثورة 25 يناير، فتح أعيننا على وجه آخر للعملة: عشرات آلاف المعتقلين بغير قضايا، أو بقضايا، أوهي من خيط العنكبوت، ومحاكمات انتقائية وانتقامية، وهمية هزلية. هذا فضلاً عن تهديد عالق فوق رؤوس كل مَن يعارض، أو يفكر في الاختلاف ومخالفة تيار الانقلاب
بتشويه السمعة وعمليات الشيطنة، ثم تلفيق القضايا والاعتقال، تحت أي اسم. إن بلداً تصدر فيها حيثيات أحكام بالإعدام وأحكام على الطلبة والطالبات بالسنين الطوال، بهذا العبث، لهي أكبر من سجن كبير، بل أولى بها أن تظهر كسيرك كبير. المطاردون المهددون بالحبس والتقييد، في حكم المقيدين، بل ربما أسوأ حالاً، إذ يعيش المعتقلون في سجن محدد الجدران والقضبان، والمطاردون فيها سجنهم بحجم الوطن. الأوطان والمواطنة صارت كمصيدة لسجن كبير.

رابعها، إفقادها الإرادة السياسية والاجتماعية: الاحتلال يفقد الوطن المحتل أي معنى للاستقلال، في الداخل والخارج، يطمس الإرادة، ويبطل مفعولها، ويتحكم بشعب أهم خصائصه انعدام قدرته على الاختيار. وها هي فلسطين الأبية كأم تتسول من العالم حقها في أن تكون وطناً لأهلها ودولة لمواطنيها، لأن إرادة المحتل مدعومة ومسنودة بإرادة الاستعمار العالمي والهيمنة الدولية. في غزة العزة اليوم، مشهد بشع جديد، يتمثل في التبعية الإقليمية العربية والإسلامية للمحتل وشركاه. يقف الوطن المغتصب وكل شيء ضده، والعرب تغلق دونه أبوابها. لكن المقاومة مصنع استرداد الإرادة، لأن مبتدأها هو إرادة المقاومة، وإرادة العزة التي أعدّت العدّة (ولو أرادوا الخروج، لأعدّوا له عدة).

أما الانقلاب، فهو فن صناعة التبعية وقتل الإرادة الوطنية الحرة. المنقلب، الذي "يدهش" الشرعية، ولا يقيم بنيانه على رضى من الناس واختيار، لا يجد له مستنداً إلى الخارج، في خليجٍ لا يعرف للديمقراطية والاختيار الشعبي سبيلاً، أو محيط لا يعرف غير معادلة الهيمنة ـ التبعية. يتحرك المنقلب، اليوم، في هذا الإطار لا ينظر لرأي عام ولا لنخبٍ ولا لقوى سياسية، أو مجتمعية، مهما كان القرار مصيرياً أو مؤثراً على حاضر الوطن ومستقبله، والمنقلبون العبيد من ورائه يهلّلون. هل يتم تحريك الجيش وتوظيفه في معارك وتصفيات حساب إقليمية أو دولية؟ وهل يتم الزج به، وفق إرادةٍ خارجيةٍ، أو توافقات بين الانقلاب والاحتلال؟ أياً ما كان الذي سيحدث، فليس فيه للشعب اختيار، ولا للوطن ومواطنيه إرادة، ومَن يعترض يُطرد أو يطارد.
لكن، الأسوأ من هذا كله، محاولات كل من المحتل والمنقلب صناعة القبول والقابلية لكل من الاحتلال والانقلاب، وترويج فكرة الأمر الواقع والاستسلام له، وقتل مناعة الشعوب وقابليتها للمقاومة. إن صناعة القابلية وعمليات تدمير المناعة هي قمة ما يطمح إليه المغتصب للحق: أن يقنع المغصوب حقه أنه لم يعد صاحب حق، وأنه ليس عليه إلا أن يبارك، ويشارك في بقاء الاحتلال، وتمكين الانقلاب، وشرعنة كل منهما. صناعة الشرعنة في الاحتلال والانقلاب صناعة واحدة، يقوم بها المحتلون والمنقلبون، هذا يريد إضفاء شرعنة على غصبه واحتلاله، وهذا يحاول بشرعنته أن يضفي على انقلابه غطاءً من الشرعية المزعومة، وشرعنة على عمله المرجوم.

في فلسطين وغزة العزة، قال الشعب الحر الأبي للمحتل لا وألف ألف لا، وقاوم وصنع مقاومة إنسانية وحضارية ومبدعة بكل معاني الكلمات، باسلة ومستبسلة، وقادرة على إيلام العدو ومحاصرة الحصار، وفرض ميزان قوة جديد، وتمكين إرادة الشعب ضد الاحتلال.
وفي مصر الكنانة، شعب صابر ثائر، ورجال ونساء لا يقبلون ذلاً ومهانة وإهانة، ولا ينزلون على رأي الفَسَدَة والمفسدين، وقرروا ألا يعطوا الانقلاب شرعية الاغتصاب، وأن يبقوا الثورة مستمرة حتى النصر.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".