الانتخابات رهاناً محدود الفعالية

15 أكتوبر 2014

عمل بصري لـِ"مات هيرنيغ"

+ الخط -

تشكل الانتخابات المعبر الرئيس لقيام الديمقراطية، ولا يمكن تصور نظام يستند إلى الشرعية الديمقراطية خارج القاعدة الانتخابية، غير أنه، في المجتمعات المتطلعة إلى الديمقراطية، والساعية إلى إرساء دولة المؤسسات، وتحكمها شروط سوسيو-ثقافية، وتطوقها سلسلة من الإكراهات الاقتصادية، ويحدد وعيها خليط من مشاعر وحاجيات وأفكار وردود فعل ساخطة، غالباً، ما تكون بدون أفق أو رؤية واضحة، أو تلك المتقاطعة مع تطلعات أعداء الديمقراطية، تصبح الانتخابات رهاناً محدود الفعالية، ويمكن أن تفسر على أنها مجرد تمرين تقني- سياسي  ضروري، احتراماً لأجندة داخلية، ذات امتدادات خارجية.

ولا غرابة، فالمسألة تتجاوز، هنا، مجرد الرغبة في توصيف مسلسل انتخابي ما، أو الإشارة إليه بصفة سلبية أو إيجابية، إلى الخوض في عمق الأشياء، والوقوف عند الصور النمطية التي نسجتها المخيلة الشعبية في مجتمعاتنا عن مفهوم الانتخابات وأهدافها، وعن صورة النائب البرلماني وكيف يتمثله فريق واسع في المجتمع، علماً أن هناك رصيد لا يستهان به من ممارسات أعاقت انبثاق المؤسسات بشكل ديمقراطي، وشوهت الانتخابات، وأفرغتها من وظيفتها ومحتواها، مستغلة، في ذلك، أوضاعاً اجتماعية واقتصادية مزرية لشرائح عريضة من الكتلة الناخبة، وعامل الأمية، وهو الأخطر، لأنه، وهذا معطى موضوعي وبنيوي، لا يمكن لمجتمعاتٍ تنخرها الأمية والتخلف أن تساهم في بناء نموذج ديمقراطي ما، والدفاع عنه لحمايته وتحصينه.

وخلافاً لمواقف شعبوية متطرفة ومزايدة، وتدعي تمثيل الجماهير الشعبية، يحسن التحلي بكثير من الهدوء والرصانة والتعقل في تحليل مثل هذه الظواهر، وتفادي استغلالها سياسياً، ومن لا يدرك أن الأمية عدو الديمقراطية، يساهم بوعي، أو بدونه، في إنتاج التخلف السياسي والهشاشة الديمقراطية، ويؤجل إنتاج الشروط الفعلية لتحقق الإقلاع الحداثي والديمقراطي.

وما يغذي هذه الهشاشة عدم قدرة الأحزاب على إقناع من تعتبرهم جماهير شعبية، تتمتع بوعي حسي ثاقب، بالذهاب إلى صناديق الاقتراع في استحقاقات كثيرة، والتصويت لصالح هذا الرمز أو ذاك، كما أن الأحزاب أثبتت عجزها عن فهم العناصر المؤثرة في تشكيل سلوك الناخب، وحمله على الاحتكام إلى مسوغ أخلاقي ووازع تعاقدي، يمنعه من بيع صوته، أو الكذب على من وعده بمنح هذا الصوت.
وعندما يتم إغفال هذه العناصر، فلا مفر من الوقوع في فخ نتائج ونسب مشاركة ضعيفة، ولا مفر من انبثاق خريطة سياسية معقدة، يصعب معها رسم سيناريوهات منطقية، من دون السقوط في لعبة التنجيم وقراءة الكف السياسي، أو الزج بجزء من المواطنين في متاهات حديث عن تحالفاتٍ يصعب تخيلها، وتشكيلات حكومية تظهر وتختفي وتتغير بين ساعة وساعة. وهذا ما يطرح، من الآن، التفكير بكيفية جدية، والاشتغال، بمنهجية براغماتية، على إعادة صياغة البنيات الحزبية، بما في ذلك المغرب، بما يؤهل هذه البنيات لتأسيس وتشكيل أقطاب قوية ومنسجمة فكرياً وأيدلوجياً وتنظيمياً، تخرج الحقل السياسي من دائرة النفور، وتخلصه من ظاهرة البلقنة، وآفة تشابه الخطابات والبرامج.

وإذا بدا ما يؤشر إلى أن إنجاز هذه المهمة محفوف بصعوباتٍ وإكراهات كثيرة، مرتبطة بطبيعة الثقافة السياسية والممارسة الحزبية في بيئاتنا السياسية، فسيكون ضرورياً تقديم تنازلات جوهرية من الأحزاب التي يسكنها، بالفعل، هاجس بناء أقطاب حزبية قوية، وذات صدقية. وبدون هذه التنازلات التي قد تكون مؤلمة، يصعب تخيل نجاح مشروع سياسي من هذا الحجم، وإذا كانت هذه التنازلات التي ستطال، بدون شك، عدة مستويات، أمراً حتمياً، فإنها يجب أن تتبلور قناعةً تندرج في مسار وصيرورة إعادة تشكيل الحقل الحزبي وبنائه، وأن تكون بعيدة عن أي تفكير انتهازي، يقيس الخطوات السياسية، بما سيحتله من مواقع، وبما سيحصل عليه من منافع وفوائد.

ولا شك أن كثيرين ممن سيخوضون المعارك الانتخابية، في أكثر من منطقة عربية، لعل أبرزها اليوم تونس، سيضعون نصب أعينهم دروس انتخاباتٍ جرت في غير دولة، بما فيها التي شهدت سقوط أنظمة، وربما سيستنتجون عبراً وخلاصات وحكماً سياسية وسوسيو-ثقافية على الأرض، لا وجود ولا مقابل لها، لا في الكليات ولا في المقرات الحزبية وحلقات النقاش الساخنة. لا يكفي أن تصرخ الجموع، وتردد شعاراتك، لكي تتأكد من أنها حاملة مشروعك، فقد تتحول هذه الجموع إلى خصم لم يكن في الحسبان، وهذه هي المأساة الحقيقية.