الانتخابات التونسية.. استنتاجات أولية

01 نوفمبر 2014

في إحدى لجان فرز الأصوات الانتخابية في تونس (27أكتوبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

أكدت الانتخابات التشريعية التونسية أن الربيع العربي، في نسخته المتقدمة، يسير على السكة الانتقالية الصحيحة، وأن تونس تجاوزت الطور الأول من المرحلة الانتقالية بنجاح، مسجلة بذلك سابقة تاريخية في المنطقة العربية. إنه تطور نوعي، ما أحوج المنطقة إليه في ظل التعثر والإجهاض الذي لحق بالتجارب الأخرى للربيع العربي، والتي تم وأد بعضها في المهد، فيها حُول بعضها إلى حرب أهلية. ويجب التشديد، هنا، على نقطة أساسية، هي أن الديمقراطية التونسية محلية المنشأ والأداء بامتياز، ولم تكن يوماً بإيعازٍ، أو تآمر من الخارج.

وهذا دلالة على شيئين يحسبان للتونسيين. أولهما أنها تجربة ديمقراطية مستقلة عن أي مظلة خارجية، عسكرية أو قيمية. ثانيهما أنها تدل على وعي سياسي داخل البلد يدحض مجدداً مقولة "الاستثناء العربي" في المجال الديمقراطي. لكن، ما أهم الاستنتاجات الممكن استخلاصها من الانتخابات التشريعية التونسية؟ هناك جملة استنتاجات، تخص، أساساً، تونس والمشهد السياسي العربي عموماً، يمكن حصرها في الآتي.

أولاً، نجاح تونس في إدارة المسألة الإسلامية سياسياً، على الرغم من الاستقطاب والتنافر بين إسلامييها وعلمانييها، بمعنى أن إدارة العلاقة بين التيارات الإسلامية وغير الإسلامية عملية ممكنة في إطار قواعد اللعبة السياسية التي يحترمها الجميع. وهذا دلالة على تقدم ثقافة التسامح السياسي وقبول الآخر (السياسي) على حساب ثقافة الإقصاء. وإذا كانت تركيا النموذج في العالم الإسلامي في مجال إدارة العلاقة (سلمياً) بين الإسلاميين وغير الإسلاميين، فإن تونس هي النموذج في العالم العربي.

ثانياً، تطبيع وضع الأحزاب الإسلامية. فحزب النهضة جاء في المرتبة الثانية، بعيداً عن حزب نداء تونس الذي حصل على أعلى نسبة من الأصوات، لكن من دون الحصول على الأغلبية. بمعنى أن حزباً إسلامياً يربح انتخابات ويخسرها مثل باقي الأحزاب الأخرى. وسيكون هذا نقلة نوعية ليس فقط على مستوى المدركات، وإنما الممارسات السياسية، أيضاً، في تونس وفي العالم العربي.

ثالثاً، التخوف السائد عموماً في العالم العربي من فوز الإسلاميين في انتخابات ديمقراطية، ثم الانقلاب على الديمقراطية، في محله جزئياً فقط. فهو صحيح في جانب، لأن الإسلاميين لم يحسمواً موقفهم من مسائل سياسية مركزية، كالعلاقة بين المقدس والمدنس في إطار عملية سياسية، كما أن الإسلام السياسي المؤسساتي (الذي يريد الحكم عبر العملية الديمقراطية) لم يحسم، بما فيه الكفاية، موقفه من التيارات الإسلامية المتشددة. وهو خاطئ في جانب آخر، لأنه لا يستند إلى حجة دامغة، وإنما إلى حكم على ما يعتبره خصوم الإسلاميين نوايا مضمرة.

وهذا يعني أن هؤلاء الخصوم يقرون بالديمقراطية، شريطة أن يكونوا هم في الحكم، وليس الإسلاميين. ومن هذا المنظور، تستخدم تيارات علمانية فزاعة الإسلاميين، مثل الأنظمة التسلطية للاستفراد بالحكم... لكن العملية الانتخابية التونسية ونتائجها توحي بأن تونس قيد تجاوز هذه المعضلة، خصوصاً أنها شهدت خسارة الإسلاميين والعلمانيين على حد السواء، ما يعني أن المرحلة المقبلة ستكون أقل استقطاباً وبالتالي، أكثر مواءمة لتهدئة الوضع السياسي، ولإدارة العلاقة بين الإسلاميين وغير الإسلاميين، عبر قواعد ديمقراطية تنافسية، بعيدة عن منطق الإقصاء المتبادل.

رابعاً، موقع حزب نداء تونس في الخريطة السياسية التونسية وفوزه الانتخابي يشير إلى اتجاهين. يمكن الاتجاه الأول في عودة قوية لعناصر من "الحرس القديم" إلى الحكم، عبر البوابة الديمقراطية. وبما أن "نداء تونس" قدم نفسه، منذ البداية، بديلاً للترويكا الحاكمة، وخصوصاً النهضة، فهناك مخاطر من أن تقود العملية الانتخابية إلى استقطاب جديد-قديم بين "الحرس القديم" والإسلاميين، في إطار الصراع على السلطة، يحل محل الاستقطاب الإسلامي-العلماني، ولو إلى حين، خصوصاً أن "نداء تونس" ركز حملته على فزاعة التخويف من الإسلاميين، شأن الأحزاب العلمانية.

أما الاتجاه الثاني فيشير إلى تجاوز تونس عقبة حسم العلاقة مع الماضي، مبتعدة عن الإقصاء الممنهج لكل من كان في النظام السابق، كما حدث في ليبيا. وبالتالي، تكون قد نجحت في تهدئة العلاقة بين أعضاء النظام البائد وأعضاء النظام الجديد.

خامساً، تسير التجربة التونسية على خطى تجارب انتقالية في العالم، لاسيما في أوروبا الشرقية (بولندا وليتوانيا والمجر وبلغاريا...) التي فاز فيها الشيوعيون في الانتخابات بين مطلع ومنتصف التسعينات من القرن الماضي. وذلك بسبب خيبة أمل الشعب وتردي الوضع الاقتصادي بعد ثورات 1989 في أوروبا الشرقية. وما يمكن قوله، هنا، بشأن عودة "الحرس القديم" في تونس عبر بوابة الانتخابات أنه دلالة على أن العامل الإسلامي (وجود الإسلاميين في الترويكا وكونهم أحد التيارات الأكثر ثقلاً في البلاد) لم يمنع تونس من أن تعرف تطوراً مشابهاً للذي شهدته دول أوروبا الشرقية، قبل نحو عشرين سنة.