الانتحال الأدبي [7-4]...مغاربة يرفضون اللجوء للقضاء وأكاديميون في انتظار برمجيات "أنتي بلاجيا"
وفيما لم يكتف لكريني بفضح المتورطين في هذه السرقات العلمية وكشف مقترفيها على رؤوس الأشهاد كما يقول، إذ جرّب جر حالة سرقة علمية تعرض لها إلى دهاليز القضاء، فإن حالات مقاضاة المتورطين في الانتحال الأدبي والسرقات العلمية لا تزال "ضعيفة، بل نادرة الحدوث"، كما يقول الخبير القضائي المغربي في محكمة الاستئناف بأغادير والمتخصص في حماية الملكية الفكرية، عبد السعيد الشرقاوي، متذكراً حالة واحدة اشتغل عليها في السنة الماضية، كما قال لـ"العربي الجديد"، موضحاً أنه بتكليف من رئيس المحكمة الابتدائية بالرباط، أنجز تحقيقاً يتعلّق بشهادة دكتوراه ناتجة عن انتحال وسرقة الملكية العلمية للغير، ولم يصدر لحد الآن أي حكم بشأنها.
ما هي السرقة العلمية؟
تعدّ عملية نقل كتابات شخص آخر ونسبتها إلى شخص الناقل، ضمن أنواع الاعتداء على الملكية الأدبية الشاملة للدراسات والبحوث العلمية، كما أفاد الخبير الشرقاوي، قائلا "الاعتداء على حقوق المؤلف الجامعي يعادل في أي صورة من الصور جريمة السرقة، ويكون مرتكبه عرضة لرفع دعوى ضده"، معزيا عدم وصول قضايا السرقة العلمية للقضاء إلى ما سمّاها "فوضى عارمة وجهلاً كبيراً بحق المؤلف"، قائلاً "لا تخرج تلك القضايا عن اختصاصات السلطات القضائية المختصة، المخول لها أمر تعيين خبير قضائي معتمد في المجال يندب لإثبات واقعة الاعتداء وتحديد نوعه".
هل الفضح كافٍ؟
بخلاف الشرقاوي الذي يرى أهمية التقاضي في جرائم السرقات العلمية والأدبية، يرى الروائي مصطفى لغتيري، رئيس الصالون الأدبي المغربي وعضو اتحاد كتاب المغرب، في تصريح لـ"العربي الجديد" أنه "من الصعب محاربة هذا الصنف من السرقات، وبأن المحاكم ليست المكان المناسب لحل هذه المعضلة المعقدة".
ويورد لغتيري، الذي سبق أن اتهم مخرجاً سينمائياً بالسطو على حقوقه الفكرية والأدبية، بأن الأدباء يفترض أن يراعوا فيما بينهم، خاصة في حل خلافاتهم، التقاليد الأدبية المرسخة، والوازع الأخلاقي الذي يكفي وحده لدى النفوس الكبيرة، كما يقول.
وتابع بأنه "من العيب أن يصبح القضاء الساحة التي يتنافس فيها الأدباء لحل مشاكلهم، بل يكفي الفضح، لكون "المحاكمة الأدبية"، من خلال الفضح وشرح الموضوع بتفاصيله للرأي العام، كافية جداً لوصم اللصوص بالعار"، مبرزاً أن "هذا الفضح يكون مقارناً ومحللاً ومستنتجاً لخلاصات مهمة، يستفيد منها الجميع".
طريق القضاء مغلق
الفضح وحده لا يكفي، كما يرد لكريني الذي قال إن فضح هذه السلوكيات في حال ثبوتها لا يغني عن التوجه إلى القضاء، وقد سبق له، قبل أكثر من ثلاث سنوات، أن لجأ إلى القضاء بشأن قيام جريدة مغربية معروفة بنشر دراسة له سبق نشرها في موقع مركز عربي شهير، من دون الإشارة إلى مصدر الدراسة أو إدراج المراجع التي اعتمدها، ما سبّب له حرجاً مع المركز الذي يملك حقوقها.
واستطرد لكريني بأن الدراسة أعدّت حصرياً لمركز عربي نشرها على موقعه الإلكتروني في شهر سبتمبر/ أيلول 2014، قبل أن تقوم الجريدة المغربية بنشر الدراسة بعنوان مغاير ومن دون مراجع كما هو مبين في الدراسة الأصلية، كما أنها لم تشر إلى مصدرها، خصوصاً أنه لم يرسل الدراسة إلى هذه الجريدة.
وبشأن مصير لجوئه إلى القضاء، كشف المتحدث أن القضاء رفض طلبه بعد أن حصلت الجريدة بحكم علاقة صاحبها مع إدارة المركز على تنازل بالنشر، مكملاً بأن "هذا الحادث كان محطة فاصلة لمقاطعته المركز والجريدة معاً، لأنه تصرف ينطوي على تستر على القرصنة وتشجيع لها".
وعزا لكريني عدم لجوء كثيرين إلى القضاء عند اكتشاف سرقات علمية وأدبية، إلى عدم صرامة قوانين وتشريعات حماية حق الملكية الفكرية، وفعاليتها على مستوى الواقع، سواء من حيث تعقد المساطر القضائية أو التأخير في البت أو عدم تنفيذ الأحكام؛ أو عدم نجاعة هذه الضوابط والتشريعات في ردع الجناة.
سرقة رئيس الحكومة
السرقات العلمية في المغرب لم يسلم منها حتى رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، وذلك في أغسطس/ آب من عام 2014 عندما راسل عميدَ جامعة الجزائر بشأن سرقة علمية لكتابه "تصرفات الرسول بالإمامة"، نقل فيها أستاذ جامعي جزائري أجزاء كاملة ونشرها في مجلة علمية محكمة من دون الإحالة إلى المصدر.
العثماني الذي كان حينها قد غادر لتوه منصب وزير الخارجية، طالب بفتح تحقيق في السرقة لكونها "اعتداء على حقوق الغير وإساءة للبحث العلمي"، لترد جامعة الجزائر بالاعتراف بالسرقة والاعتذار، من دون معاقبة مقترف السرقة، وفق ما نشرته الصحافة المغربية والجزائرية في وقته.
ويروي الدكتور إدريس لكريني أنه منذ عام 2006 تعرض لأكثر من عشر سرقات علمية، غالبية مقترفيها أساتذة جامعيون، ويسرد لكريني التفاصيل؛ "أحدهم أستاذ فلسفة من سورية قام بنشر دراسة كاملة باسمه غيّر فيها العنوان فقط، وأستاذ جامعي آخر من الأردن قدّم جزءاً كبيراً من دراسة لي ضمن مداخلة له في مؤتمر حول الإرهاب من دون الإشارة للمصدر".
وزاد "قامت باحثة مصرية بنقل جزء من دراسة لي حول إدارة الأزمات ضمن مؤلف لها، ونقلت حتى خطأ مطبعياً ورد في دراستي، وقبل سنوات اكتشفت بالصدفة سرقة ارتكبتها باحثة جزائرية ظلت تراسلني قبل ذلك مطالبة بمدها بدراسة لي حول "تمكين المرأة"، لأفاجأ بنقل حرفي لأجزاء منها من دون ذكر المصدر".
واسترسل الأكاديمي المغربي بأن باحثاً أردنياً نقل دراسة منشورة له بإحدى المجلات العربية في مؤلف ونسبها إليه، متابعاً بأنه من الطرائف أيضاً أن باحثاً موريتانياً حاصلاً على الماجستير؛ ظل لأكثر من سنة ونصف السنة يعيد نشر مقالات له تصدر بصحيفة خليجية، وبانتحاله صفة دكتور في عدد من المواقع الموريتانية".
وآخر السرقات العلمية التي تفجرت أخبارها بالمغرب في شهر يونيو/ حزيران الفائت، اتهام عالم الاجتماع عبد الصمد الديالمي للباحثة السوسيولوجية سناء العاجي بأنها سرقت نظرياته العلمية، المتعلقة بالانتقال الجنسي في المملكة، وضمنتها في كتابها "الجنسانية والعزوبة في المغرب" الذي حصلت به على شهادة الدكتوراه.
وردت العاجي بأنها مضطرة للرد بجميع المعطيات الأكاديمية الأساسية، قبل أن تقارن بين أبحاثها وأبحاث الديالمي في ما يخص نظرية "التحول الجنسي"، لافتة إلى أن إحدى النظريات التي اتهمها الديالمي بسرقتها كانت منشورة من قبل كتابه هو في مؤلف للباحثة مونية الشرايبي عام 1995.
ومن قصص السرقات العلمية الأخرى التي وجدت طريقها إلى الصحافة أكثر من ردهات المحاكم، اتهام الدكتور محمد الغرضوف، الباحث الإسلامي، لزميله الدكتور علال الزهواني، في يوليو/ تموز 2017، بسرقة كتاب له عبر نشر مقالات متفرقة، ليرد عليه صديقه بأنه "سيبين من هو السارق فعلاً"، قبل أن تطوى صفحة الاتهامات بشكل مفاجئ.
ويعلق الناقد والباحث في شؤون المعرفة صلاح بوسريف على كل تلك الوقائع والاتهامات قائلاً بأن هذه السرقات العلمية إهانة للبحث العلمي، والبحث في علميته هو جهد ذاتي، سواء أكان فردياً أم جماعياً"، متابعاً بأن "كل مشروع علمي هو أفق لا يخص الباحث، بل كل من يعنيهم هذا المشروع، بما في ذلك المجتمع".
وزاد بوسريف بأنه "حين نتجاسر على نسبة هذا المشروع، أو بعض هذا المشروع، فهذا يفقد الباحث المصداقية العلمية، كما يجعل المشرف والجامعة في حرج، وبالتالي، لا يبقى للعلمية أي أثر، وهذا ما أثر على تصنيف عدد من الجامعات المغربية، خصوصاً حين تكون هذه الجامعات تعاني من مشاكل في التكوين والتأطير".
مكتبات البحوث
الخبير القضائي الشرقاوي أثار نوعاً من السرقات العلمية يتمثل في الاستنساخ غير المشروع للمؤلفات الذي قال إنه ينتشر داخل الخزانات والمكتبات على مرأى من الجميع، وهو ما يؤكده صاحب مكتبة بحوث في أحد أحياء الرباط، طلب تعريفه بـ "عبد الإله"، قائلاً لـ"العربي الجديد" إن هذا النوع من الاستنساخ يجرى العمل به في بعض المكتبات بهدف الربح.
وتابع المتحدث بأنه "خلال الفترة التي تسبق الامتحانات الجامعية، خاصة سنة الحصول على شهادة الإجازة أو حتى الماستر، تكثر على مكتبه طلبات عدد من الطلبة لإنجاز بحوث نهاية العالم، التي يقدمونها في ختام السنة الدراسية لنيل شهاداتهم"، مورداً أنه مع "فريق العمل" يعملون على إنجاز هذه البحوث استناداً إلى مطبوعات ومؤلفات منشورة.
ويسترسل بأن الطالب يؤدي للمكتبة ثمن هذه الخدمة التي قد تصل إلى ما بين ألف و3 آلاف درهم (بين 100 و300 دولار)، مقابل الحصول على البحث الجامعي الذي يضع عليه اسمه، إذ لا يهمه سوى التخرج من الجامعة، حتى لو لم يبذل أي جهد في أطروحة نيل الإجازة.
الأمر أصبح معتاداً كما يقول محمد سيزو، خريج جامعة مكناس، مشيراً إلى أن كثيراً من زملائه يلجؤون إلى هذه "السرقات العلمية" لتقديم بحوثهم الجامعية قصد نيل شهادة التخرج، وبأنه في أغلب الحالات لا ينتبه الأساتذة المشرفون لتلك السرقات التي يتم "التلاعب فيها" بإضافة وتغيير الأساليب والعناوين.
ويردف المتحدث بأنه "في حالات قليلة سمع عنها لطلبة تم فيها اكتشاف سرقة بحوثهم لنيل الإجازة الجامعية من بحوث ومؤلفات أخرى، تراوحت ردود أفعال أساتذتهم بين رافضين لهذه البحوث وطلب إعادة الاشتغال عليها، أو توجيه إنذار إليهم، أو تقديمهم أمام المجلس التأديبي في أقصى الحالات، لكن لم يتم اللجوء أبداً إلى القضاء"، وفق قوله.
في انتظار برمجيات "أنتي بلاجيا"
تخضع السرقات العلمية والأدبية والفنية أيضاً لقانون الملكية الفكرية، إذ تنص المادة 62 منه على أنه "في حالة خرق حق معترف به لصاحب حقوق محمیة بموجب ھذا القانون، یحق لصاحب الحقوق الحصول من مقترف الخرق على تعویضات عن الضرر الذي تعرض له بسبب فعل الخرق".
وسبق للمجلس الأعلى للتربية والبحث العلمي (مؤسسة حكومية تعنى بالتخطيط للتعليم والتربية والتكوين)، أن أصدر تقريراً هو الأول من نوعه في مايو/ أيار 2017، سجل فيه تفشي ظاهرة السرقات العلمية، بدليل أن أغلب مواضيع الأطروحات تتشابه في مختلف الجامعات".
ولفت التقرير إلى أن مراكز الدراسات في جامعات المملكة لا تُولي أهمية للأخلاقيات والمبادئ في مجال البحوث، وأن المراكز المشرفة على البحوث لا تراقب ظاهرة الغش والسرقات العلمية وخطف أفكار أشخاص آخرين خلال تقديم الأطروحة للمناقشة، بسبب عدم توفر المراكز على البرمجيات المختصة والكفاءات والموارد الضرورية لإنجاز مهمة المراقبة والتتبع".
ووفق رحمة بورقية، مديرة لجنة التقييم في المجلس، فإن السرقات العلمية داخل الجامعات نتاج عدد من الاختلالات الرئيسية والمؤثرة، منها اكتظاظ هذه المؤسسات التعليمية، بدليل أن أستاذاً واحداً يدرس أكثر من 83 طالباً في المعدل، مبرزة أن الجامعة تعاني أيضاً من هزالة ميزانيتها التي تخصص أكثر لكتلة الرواتب، ما يجعلها غير مواكبة لتعقب السرقات وباقي المظاهر السلبية.
البرمجيات الخاصة التي تعرف بـ"أنتي بلاجيا" سبق أن أوصى بها المركز الوطني للبحث العلمي والتقني، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لكي توضع رهن إشارة الجامعات المغربية وجميع مراكز البحث التي تشرف على تقديم الأطروحات، فيما وعد الوزير المنتدب المكلف بالتعليم العالي خالد صمدي، في جلسة سابقة للأسئلة البرلمانية، باقتناء هذه البرمجيات والعمل بها قريباً في جامعات البلاد.